حسَّان بنُ ثابت
أنا حسان ُ بن ثابت. ولدتُ في المدينة المنورةِ سنة 563م، وذلك قبل مولدِ الرسول، محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بنحوِ ثماني سنواتٍ ونشأتُ في بيتٍ له شأنٌ ووجاهةٌ وشرفٌ في الجاهليّةِ والإسلام. انصرفتُ، في مطلعِ شبابي، إلى اللّهوِ، والشّربِ، والغَزَل، وكنتُ شاعرَ قبيلتي الخزرج، مُقابل الشّاعر قيسِ بنِ الخطيمِ،شاعرِ القبيلةِ المنافسةِ لقبيلتي وأهلي، وهي قبيلة الأوسِ. لقد سخَّرتُ شِعري للدِّفاع عن قبيلتي وأهلي، والإفتخارِ بهم وبأمجادهم، ممّا أكْسَبَني الشّهرةَ وذيوعَ الصِّيتِ، ولا سيَّما في مجالِ شعرِ الفخر والهجاءِ.
إتَّصلْتُ بالغساسنة والمناذرةِ، وطابت ليَ الحياةُ في بلاطِ ملوكِهم الذين مدحتُهم، فأغدقوا عليَّ بِالهِباتِ والأُعطياتِ الكثيرة، مِمَّا مَنَحني المكانةَ السَّاميةَ، والشُّهرةَ الكبيرةَ في ميدانِ شعرِ المدحِ على نحوٍ خاصٍّ.
وعندما بزغَ فجرُ الإسلامِ، كان عمري قد بلغَ السِّتين، بدأتُ مرحلةً جديدةً من حياتي، وُلِدتُ فيها من جديد، عندما انخرطتُ في عدادِ هذا الدِّين الحنيفِ، وأصبحتُ شاعرَ الدَّعوة الإسلاميَّةِ، ولسانَها المنافحَ عن تعاليمها،وقد أُعجبَ الرَّسول الكريمُ بي وبشعري، فَقَرَّبني منه وجعلني شاعرَهُ الخاصَّ، الذي يوظِّفُ شِعرَهُ للدِّفاعِ عن الإسلامِ، ورسولهِ، وأمَّتهِ، فأكسبَني ذلك مكانةً مرموقةً في نفوسِ المسلمين.
وَبَعْدَ وفاةِ الرَّسولِِ الكريمِ،استمرَرْتُ في مواصلةِ الإهتمام بالدَّعوة الإسلاميَّةِ، وبقيتُ على هذا الحالِ، إلى أنِ امتدَّ بي العمرُ، وشهدتُ عهدَ بني أميَّة، واتَّصلتُ بالخليفةِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ، الذي أجَلَّني وأكرمني إلى أنْ إستوفيتُ أجلي في فترةِ حكمهِ.
شاعريَّتي وَشِعري
قلتُ الشِّعرَ منذُ وقتٍ مبكرٍ من عمري، وقد اصطبغَ شِعري، عبر سنواتِ عمري الطويلةِ، بعدةِ طوابعَ، كنتُ فيها متكيِّفاً ومتناغماً معَ طبيعةِ كلِّ مرحلةٍ من المراحلِ التي عشتها، وكلِّ محطةٍ من المحطَّاتِ التي وقفتُ فيها.
*لقد كنتُ، في البدايةِ، شاعرَ قبيلتي الخزرج، هذه القبيلةُ التي كانت تعيشُ حالة صراعٍ مريرٍ مع قبيلةِ الأوسِ. وقد خلَّدتُ هذا الصراعَ في شعري الذي افتخرتُ فيه بقبيلتي، وشجاعةِ أبنائها، وشرفِ أصلهم ونَسبِهم، وكنتُ نِدّاً عنيداً لشاعرِ الأوسِ قيس بن الخطيمِ،الذي كان يُبادلني هجاءً بهجاء، وفخراً بفخرٍ، وقد اتَّسَمَ شعري، في هذه المرحلةِ، بسمةِ النِّضالِ القبليِّ الذي غلبَ عليه الفخرُ.
*وبعد أن اتَّصلتُ ببلاط الغساسنةِ والمناذرةِ، إنتقلتُ بشعري من ميدانِ الفخرِ إلى ميدانِ المدحِِ، فقلتُ قصائد المدحِ في بعضِ أُمراءِ الغساسنةِ، ولكنَّ قصائدي في مدحِ المناذرةِ قد تعرضَ معظمها للضِّياعِ. وليس صحيحاً ما يعتقده بعض الدَّارسينَ، من أنَّ مدائحي هذه كانت بهدفِ التكسُُّبِ، وإنَّما كانت سعياً وراءَ المجدِ، والمكانةِ العاليةِ التي تُحقِّقها، في العادةِ، الصلةُ بالملوكِ والأُمراء.
* وعندما جاءَ الإسلامُ، أصبحت شاعرَ هذا الدِّينِ الجديدِ، وقد اصطبغَ شعري، في هذه المرحلةِ، بطابع النِّضالِ السِّياسيِّ، الذي يمدحُ ويهجو، لا من أجلِ قبيلةٍ، أو مَلكٍ، وإنَّما من أجلِ دينٍ جديدٍ، وَدَعوةٍ دينيَّةٍ تهدفُ إلى صياغةِ حياةِ الإنسانِ على نحوٍ متميِّز.
وعلى أيِّ حالٍ، فقد كنتُ شاعراً فحلاً مطبوعاً، سِمحَ القريحةِ، عظيمَ الإعتدادِ بنفسي وبشاعريَّتي، وقد وَظَّفتُ شِعري، بعد الإسلامِ، في خدمة الدِّينِ الحنيف، والتَّنديدِ بالكفرِ والكافرين، فاستحققتُ بذلك لقبَ "شاعر الرَّسول"، وحظيتُ بإعجابه عليه السَّلام، فقدَّمني على غيري من الشُّعراء، وأقامَ لي منبراً في مسجدِهِ لإنشاءِ الشِّعر، وقال لي:" واللهِ إنَ كان كلامكَ لأشدّ عليهم من وقعِ السِّهامِ في غَلَسِ الظلام" وقال فيَّ أيضاً:" هجاهم حسّان فشفى واشتفى".
ومن روائع شعري
*قولي في مدحِ رسولِ الله عليه الصَّلاة والسَّلام:
وأحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني
وأجملُ منكَ لم تلدكِ النِّساءُ
خُلقتَ مُبرأً من كلِّ عيبٍ
كأنكَ قد خُلقتَ كما تشاءُ
*وقولي في الحكم:
رُبَّ حلمٍ أضاعهُ عدمُ المالِ، وجهلٍ غطى عليه النَّعيمُ
ما أُبالِي أنَبَّ بالحزنِ تَيس أم لَحانِي بِظهرِ غيبٍ لئيمٍ
*وقولي:
لا عيبَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ جسمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
لا ينفعُ الطُّولُ من نُوكِ القلوبِ ولا يهدي الإلهُ سبيلَ المَعشَرِ البُورِ
*وقولي في الأخلاق:
لكِ الخيرُ، غُضِّي اللومَ عنّي، فإنَّني أُحبُّ من الأخلاقِ ما كان أجملاَ
ألَم تعلمي أنَّي أرى البُخلَ سُبَّةً وأُبغِضُ ذا اللَّونينِ والمُتنقِّلا
إذا إنصرفت نفسي عن الشّيءِ مرَّةً فلستُ إليه آخرَ الدَّهرِ مُقبِلاً
نهاية رحلة العمر
عشتُ ما يُقاربُ مائةً وعشرينِ عاماً، قطعتُ نصفَها في الجاهليَّة،ونصفَها الآخر في الإسلام. وإذا كنتُ أعتزُّ في حياتي بشيء، فإنَّني أعتزُّ بتلك الفترة التي عُشتها تحت ظلال الإسلام الحنيف، إلى جوارِ رسولِ اللهِ محمدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام، أدعو معه إلى هذا الدِّين، وأنافح عنه وعن تعاليم الإسلام.
لقد إمتدَّ بي العمر، وشهدتُ عهدَ الرَّسولِ الكريمِ، وعهدَ الخلفاء الرَّاشدين، وطرفاً من الخلافةِ الأمويَّة، حيثُ عاصرتُ الخليفةَ معاويةَ بن أبي سفيان، ثمَّ ودعتُ هذه الحياةَ بعد أن خلَّفتُ ورائي ذخيرةً رائعةً من جيِّدِ الشعرِ الذي فاق شِعرَ فحولِ الجاهليَّةِ، وتصدَّرَ شِعر الإسلاميِّين.
لقد قلتُ قصائدَ من أحسن ما قيل في عصرِ النبوَّةِ، كشفتُ فيها عن حقائق تاريخيَّةٍ، ووضَّحتُ فيها جوانبَ من النَّهضة الإسلاميَّةِ، وقد تأثَّر بي كثير من الشُّعراء الذين عاصروني، أو جاؤوا بعدي.