ونشأَتُ في أسْرةٍ عُماليَّة كادحة. كان والدي، رحِمَهُ الله، إنساناً عِصامياًّ، فقد ارتبط بالأرض، وعمل في الزراعة، وكان حافظاً للقرآن الكريم، أمَّا والدتي، رحمها الله، فقد كانت، كوالدي، تحبُّ الأرْضَ، وتَشْتَغِلُ،فيها
تلقَّيتُ تعليمي في مدارس النَّاصرةِ، وفي مدرستها الثانوية تخرَّجتُ، ثمَّ توجَّهتُ، بعد ذلك، إلى ميدان العمل لأُساعد والدي في النُّهوضِ بمسؤولية العائلة، فعملتُ موظفاً، وعامل بناء، ثمَّ إنخطرطتُ في الحزب الشُّيوعيِّ؛ وقد دفعني إلى ذلك، وقتذاك، عدائي للاستعمار البريطانيِّ، وموقفي المُعادي للنَّازية، وتأييدي للاتِّحاد السوفييتي الذي قضى على الوحشِ النازي، فضلاً عن إحساسي بأنَّ الشيوعيَّة تُحققُ العدل الاجتماعيَّ، وتناصر الحركات الوطنيَّة. لقد كان التحاقي بالحزب الشيوعي سنة 1948م. نقطة تحوِّل خطير في حياتي، حيث ارتبط نشاطي السِّياسيُّ، والإجتماعيُّ، والأدبيُّ كلُّه، بمفاهيم هذا الحِزبِ وتعاليمه.
وبعد قيام دولة اسرائيل، واصلتُ نَّضاليَ السِّياسيَّ والاجتماعيَّ الدَّؤوبَ من أجلِ حقوق أبناء شعبي، ومن أجل الدِّفاع عن الطَّبقة العاملةِ المَقْهورة، مُتحدِّياً، في ذلك، سُلُطات الحكم العسكريِّ، فلقيتُ، بِسبَبِ ذلك، العَنَتَ، وسوء المُعاملةَ، والإضطهادَ، والاعتقالَ، والسِّجنَ، ولكنني واصلت النِّضال وقامتي مرفوعةٌ، لا تَهُزُّني تهديدات السُّلطة، ولا تُزَعْزِعُنِي ملاحقتُهم واضطهادُهم.
كان نضالي وصمودي في وجه الأعاصير، مَوضع احترام الأهلِ وثقتهم، فأنْتُخبت سنة 1954م عضواً في بلديَّة الناصرة، وأصبحتُ في 9/12/1975م رئيساً للبلدية، ثمَّ أُعيدَ إنتخابي رئيساً لها بتاريخ 7/11/1978م. وفي بلديَّة الناصرة، قُدْتُ معارك إصلاحية في إدارتها وتنظيمِ شؤونها، وكنتُ أحدَ المُخَطِّطين لمشروع الناصرة(2000) الذي يهدفُ إلى تطوير المدينة، ويُهَيِّئُها لدخول القرن الحادي والعِشْرين.
انتُخبْتُ لعضْويَّة البرلمان الإسرائيلي(الكنيست) بتاريخ 31/12/1973م، وبقيتُ أعملُ في هذه المؤسسة البرلمانيَّة عدَّة دوراتٍ، كنت فيها صوتاً مُدوياًّ يًطالبُ بحقوق العرب، ويَدعو إلى تحقيقِ العدالةِ والمُساواة.
ملامح من شخصيَّتي
إذا أرَدْتُمْ أنْ أقولَ لكم من أنا، على نحوٍ موجزٍ ومُختصرٍ، فإنَّني أكتفي بالقول: إنَّني إنسانٌ عِصامِيٌّ مُتواضعٌ، مُناضلٌ، شاعرٌ.
لقد قضيتُ حياتي وأنا أَعملُ من أجلِ كَسبِ العَيشِ الشَّريفِ، لم تَسلُبُني المناصب والمراكزُ، التي شَغلْتُها، تواضعي وحبِّي للنَّاسِ. لم أمتلكْ شيئاُ، ولم أكنْ من أصحاب الدُّنيا وعُشَّاقها، وإنَّما كُنتُ إبناً للشَّعبِ، لا أدَعُ فرصَةً اجتماعيَّةً، ولا وطنيةً، ولا سياسيةً إلا اشتركتُ فيها، ما دامَ الهَدَفُ من ورائها مصلحةَ الوطن وأبنائه.
كرهتُ الطائفية والتًعصُّبَ الدينيَّ والعِرْقيَّ، وكنت أدعو دائماً إلى الوحدة والتآخي، ويشهد لي كلٌّ من يعيش في مدينة الناصرة، بلْ وفي كلِّ مدن فلسطين وقُراها، بدماثه الخُلُقِ، وطيبِ السَّريرةِ وطهارة المَبدأ، ونقاءِ اليَدِ، والتَّفاني في الخدمة العامَّة. لقد كان شِعاري دائماُ: أُعطي نصفَ عُمري للَّذي يَجْعلُ طِفلاً يضحكُ!!!
ولكِنَّ هذه الصِّفاتِ والملامحَ لمْ تَكْن تُرضي الآخرينَ، فتعرَّضتُ، لِما يتَّعرَّض له دائماً الأحرارُ المناضلونَ، من مُضايقاتٍ وإزعاجاتٍ ومُنغِّصاتٍ، ولهذا، فقد كُنتُ أرى في الشِّعرِ رئةً صالحةً للتَّنفسِّ السليم، وقناةً نقيةً تَصِلُني بالجماهير، ووسيلةً أستَطيعُ، من خلالها، تجسيدَ همِّي وَحبِّي لوطني وشعبي.
ثقافتي وإبداعي الأدبيّ
في مدْرسةِ النَّاصرةِ الثَّانويَّة، بدأتْ مَوْهِبَتي الأدبيَّةُ تتفتَّحُ، وبدأتْ شخصيَّتي الثقافيَّةُ تتبلوَرُ، وكانتِ الأوضاعُ السِّياسيَّةُ والنِّضاليَّة التي تَمُرُّ بها بلادي، في ذلك الوقت، الوقودَ الذي أذْكى شُعْلَةَ الفكْرِ، وَوَهَجَ الأدبِ المُعْتَمِلِ في قلبي، والمُختلجِ في نفسي.
لقد تَسنّى لي أن أقوم بعددٍ من الزِّياراتِ لكثيرٍ من بُلدانِ العالَمِ، مِثْل الولايات المُتحدةِ الأمريكيَّةِ، وكندا، والإتحاد السوفييتي، ومختلفِ دول أوروبا، كما تَسَنّى ليَ الإشتراكُ في عددٍ من المؤتمراتِ السِّياسيَّةِ والأدبيَّةِ الدَّوليَّةِ، فمَكَّنني ذلكَ من الإطِّلاعِ على كثيرٍ من المفاهيم والمبادئ والأفكارِ والنَّظرياتِ، والقراءة عنها، فَصَقلَ ذلك نبتةَ الأدبِ في حديقةِ الرُّوح، وسقاها بماءِ الحُريَّةِ والنِّضال.
ولا شَكَّ في أنَّ زيارتي للاتحاد السوفييتي، وإقامَتي فيها لمدَّةِ عامين، دَرَستُ خلالها موضوعَ الإقتصادِ السِّياسيِّ، قد أسهَمَ في تَعميقِ إنتمائي الفكْريِّ والوجدانيِّ لتعاليم الحِزْبِ الشيوعيِّ، الذي وجدْتُ فيه المتنفَّسَ لكثيرٍ من المُشكلاتِ النِّضاليةِ التي نعيشُها كَعربٍ في هذا الوَطن الغالي.
أما بالنسْبَةِ لشاعريتي وشِعْري، فقدْ اعْتَبرَني الدَّارِسون والنُّقاد، واحداً منْ كبارِ الشُّعراءِ العربِ، ومنْ أَبرزِ شُعَراءِ المُقاومَةِ، أقفُ في صفٍّ واحد معَ إخوتي وأحبَّائي شُعَراء فلسطينَ، محمود درويش، وسميحَ القاسم، وراشد حسين، وغيرهم. لقدْ جَسَّدْتُ في أشعاري همومَ الوطّنِ، وعَبَّرتُ عن آمالِ الشَّعبِ الفلسطيني بالحُّريَّةِ والعّدالةِ والمساواةِ، وتَشْهدُ أشعاري الكثيرة على ذلك، فقد خصَّصتُ دَواويني الشِّعريَّةَ ومؤلفاتي الأدبيَّة الأُخرى لهذه الغايةِ النَّبيلةِ، وقدْ تحوَّلتْ بعضُ قصائِدي إلى أغانٍ وطنيَّةٍ، وأصبحتْ جزءاً من التُّراتِ الحيِّ لأغاني المُقاومةِ الفلسطينيَّةِ،
فأنا القائل:
هنا باقون كأنَّنا عشرونَ مُستحيلْ
في اللدِّ والرملةِ والجليلْ
هنا على صُدورِكم باقونَ كالجدارْ
وفي حلوقكمْ
كقطعةِ الزُّجاجِ كالصَّبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار
هنا على صُدوركم باقونَ كالجدارْ
نُنظِّفُ الصحونَ في الحاناتْ
ونملأ الكؤوسَ للساداتْ
ونَمسحُ البلاطَ في المطابخِ السوداءْ
حتى نَسلَّ لقمةَ الصِّغارْ
من بينِ آنيابكمُ الزَّرقاءْ
هنا على صُدوركم باقونَ كالجدارْ
نَجوعُ... نَعْرى... نتحدى...
نُنشِدُ الأشعارْ
ونملأُ الشوارعَ الغضابَ بالمظاهراتْ
ونملأُ السجونَ كبرياء
ونصنعُ الأطفالَ.. جيلاً ثائراً.. وراءَ جيلْ
كأننا عشرونَ مستحيلْ
في اللدْ والرملةِ والجليلِ
*وأنا القائلُ من قصيدةٍ لي بعنوان
"مليون شمس في دمي":
سَلَبوني الماءَ والزيتَ
وملحَ الأرْغِفَة
وشعاعَ الشَّمسِ والبَحر
وطعمَ المَعْرفَه
وصَبياًّ- مُنذ عشرين- مضى
أتمَنَّى لحظةً أن أعْطِفَه
سَلبوني كلَّ شيء:
عتبة البيتِ وزهرَ الشُّرفَة
سَلبوني كلَّ شيء:
عتبةَ البيتِ وزهرَ الشُّرفَة
سَلبوني كلَّ شيء
غير...
قَلْبٍ وضَميرٍ وشَفه
كبريائي وأنا في قَيْدهم
أعنفُ من كلِّ جنونِ العَجْرفَة
في دمي مليونُ شَمسٍ
تتحدَّى الظُّلَمَ المُختَلفَة
وأنا أقتَحمُ السبعَ السماواتِ
بحبَّي لكَ
يا شعبَ المآسي المُسرفَه
فأنا.. ابنُكَ.. من صُلبكَ
قلباً وضميراً وشَفَه
يَدنا ثابتةٌ... ثابتهْ
ويدُ الظُّلمِ
مهما ثَبَتتْ.. مُرْتَجِفَه
وأنا القائلُ أيضاً:
أنا إنسانٌ بسيطٌ
لم أضعْ يوماً على كَتِفَيَّ مِدْفَعْ
أنا لم أضغط زناداً
طولَ عُمْري
أنا لا أملكُ إلاّ
بَعضَ مُوسيقى تُوَقَّعْ
ريشَةً تَرسُمُ أحلامي
وَقَنينةَ حِبرٍ
أنا لا أَمْلكُ حتَّى خُبزَ يَومي
وأنا بالكادِ أشبعْ
إنما أملكُ إيماني الذي
لا يَتَزَعْزَعْ
وهوىً
يكْتَسحُ الكَوْنَ
لشَعبٍ
يتوَجَّعْ
نهايةُ رحْلّة العُمْر
لم أَكنْ أَعلمُ، وأَنا في أَوْجِ نَشاطي وَعملي المتواصِل سَنَة 1994م، أنَّ الموتَ كانَ يَنْتَظِرُني، ليضعَ حداً لتلكَ الشُعلةِ الوهَّاجة.
حقاً لقدْ كانَ عام 1994م من أكثر سنوات العُمرِ خُصوبةً، ونشاطاً، وعطاءً، رَغمَ تَقدُّمي في السِّنِّ، واعتلالِ صِحَّتي بِسببِ مرضِ السُكري اللَّعينِ. إنَّني، كعادتي، لمْ أترك في هذه السَّنة مناسبةً إجتماعيةً، أو سياسيةً، أو وطنيةً، إلا اشتركتُ فيها، لقدْ ظهرتُ كثيراً على شاشات التلِّفاز مُتحدثاً عن قضايا الوَطن، وهموم أبنائهِ، وظهرتُ على تلك الشاشاتِ مُعلقاً على كثير من الأوضاع السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، وظهرتْ عليها أيضاً، وأنا أُلقي أشعار الوَجْدِ والوجدانِ للوطنِ الذي كنتُ مَسكوناً به.
وأستَمَعَ إلى صوتي كثيرون ممَّن يُتابعون الإذاعةَ، وقرأ الكثيرونَ ما كنت أكتبهُ، أو يُكتبُ عنِّي في الصِّحافة. نعم، لقد كان عامُ 1994م عامَ النَّشاطِ، ولكنَّه كان عام الوداعِ، وداع هذه الدُّنيا التي ما أرتميتُ على صدرها طلباً لجاهٍ، أو رغبةً في مكانةٍ، ولكنَّني عِشتُ أيامها مُناضلاً بالموقف الشَّريفِ الأدبيِّ، وبالكلمةِ الشُّجاعة النَّظيفةِ.
لمْ يكتب المَوتُ السطرَ الأخيرَ من حَياتي، وأنا في نزهةٍ أُرفِّهُ بها عن نفسي، أو في رحلةِ استجمامٍ من عناء السَّفر في قطار العُمرِ المُضني، وإنَّما كَتَبَ الموت هذا السطر، وأنا أقودُ سِيارتي عائداً من مدينة أريحا إلى الناصرةِ، بعدَ أنْ ودَّعتُ رئيس السُلطة الوطنيَّةِ الفلسطينيَّة ياسر عرفات قبل مغادرتهِ إلى القاهرةِ.
كان اليوم الثلاثاء الرابع من شهرِ تموز سنَة 1994م، وكان الجوُّ حاراً، ولكنَّ الجَسَدَ المُتعبَ والمتوهِّجَ سقطَ مَقروراً بارداً، بعدَ أنْ إصطدمتْ سيارتي بِسيارةٍ أُخرى، وكنتُ الضَّحيَّة الوحيدة في هذا الحادث.
لقد ودَّعتُ هذه الحياة الدُّنيا، بَعدْ أن أدَّيتُ دَوري فيها كاملاً بأمانةٍ ومسئوليةٍ، وشَرَفٍ، وبعدَ أن تركتُ ورائي ذِكرى عطِرةً لكلِّ من أراد أنْ يَعمَلَ في السِّياسة، أو يناضل بالموقفِ والكلمةِ، كما تركتُ ورائي أيضاً، ما يبقى في الذاكرةِ والوجدانِ من فكر، وأدبٍ، وشعْرٍ.
تركتُ في ميدانِ الشِّعرِ الدواوين الآتية:
أشدُّ على أيديكم، الناصرة، سنة 1967م، وبيروت سنة 1969م. ادْفنوا موتاكم وانهضوا، بيروت، 1969م. أم درمان المنجل والسيف والنغم، بيروت، سنة 1969م. كلمات مقاتلة، الناصرة، سنة 1970م. شيوعيون، بيروت، سنة 1970م. أُغنيات الثورة والغضب، بيروت، سنة 1970م. عمّان في أيلول، الناصرة، سنة 1971م. سُجناء الحرية وقصائد ممنوعة أُخرى، الناصرة، سنة 1973م. ديوان ، مع مقدمة للدكتور عز الدين المناصرة، بيروت. وتركتُ في ميدان التأليف الأدبي: عن الأدب والأدب الشعبي في فلسطين، بيروت سنة 1970م. نصراوي في الساحة الحمراء، الناصرة، سنة 1973م. حال الدنيا، وهي مجموعة قصص فولكلورية، الناصرة، سنة 1974م. صور من الأدب الشعبي الفلسطيني، بيروت، سنة 1974م.
تعليقات الزوار
1 .
من الجليل إلى بئر السبع
ربيع السويطي
فلسطين بلادنا من راس الناقورة إلى أم الرشراش ورفح ستظل تذكرك يا أبا الأمين بشعرك وشعر زملائك محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وعزالدين المناصرة وأحمد دحبور ومريد البرغوثي وغيرهم. انتم شعراء المقاومة والثورة.
قصائدك مثل عنب الخليل جواهر على صدور بنات فلسطين إلى الأبد. رحمك الله.
اهديكم قصيده احبكم ولكن لشاعرنا الكبير توفيق زياد
دنيا سامي بدارنه
احب لو استطعت بلحظه ان اقلب الدنيا لكم راسا على عقب .واقطع دابر الطغيان احرق كل مغتصب . واوقد تحت عالمنا القديم جهنما مشبوبه اللهب .واجعل افقر الفقراء ياكل في صحون الماس والذهب .ويمشي في سراويل الحرير الحر والقصب . واهدم كوخه...ابني له قصرا على السحب . احب لو استطعت بلحظه ان اقلب الدنيا لكم راسا على عقب . ولكن للامور طبيعه اقوى منالرغبات والغضب . نفاذ الصبر ياكلكم فهل ادى الى ارب... . صمودا ايها الناس الذين احبهم. صبرا على النوب . ضعوا بين العيون الشمس والفولاذ في العصب. سواعدكم تحقق اجمل الاحلام تصنع اعجب العجب.