القِصَصُ الشَّعبيَّة الفلسطينيّة
الحكاية الشَّعبية
ما زلت أتذَكَّر صورةَ جدَّتي، أُم علي، وهي تُطِلُّ علينا مساء كلِّ يوم، وجهُها كالقمر، ابتسامتُها كهلالِهِ، والنّار ترقصُ في الكانون فَرِحَةً كفرحة الصِّغار من حولها، فقد أَحطْنا الكانون من جهاته المتعدِّدة، فعدد إخوتي وأخواتي يكفي لتشكيل فريق متكامل في كرة القدم، بما في ذلك لاعبو الاحتياط، لا بل والحكم أيضاً إن شئتم, وقد يتبقَّى الصَّغير فائضاً، لينضمَّ إلى جمهور المشجِّعين.
تَدْخُل جدتي بيتنا مساءً فنلاقيها بالتِّرحاب، لا أقلَّ عن ترحابنا بالعيد، ونحفظ لها مكاناً خاصّاً بيننا، نعم حول كانون النَّار، الذي حملته أمنا على التوِّ من "قُصَّة " البيت أو صحنه ، بعد أن تُقَطَّع الحطب فيه قِطعاً، أو قل : " قَطّّعت النَّار"
ويبدأ اللِّقاء الثَّقافي التُّراثي والحضاري في عزِّ الشتاء,
وتبدأ جدَّتي حديثها، بجُملتها المأثورة:
" كان يا مكان، يا سامعين الحكي والكلام، بدكو نحكي ولا نْنام ؟
الأجواء التي خيَّمت علينا أثناء رواية الحكاية الشَّعبية، والدِّفء، والسَّكينة والطمأنينة،, منظر النَّار تموجُ بلونها الذهبي المائل إلى الحمرة، وصوت الراوية، جدَّتي، يرتفع تارةً، ويتخفض تارةً أخرى، والإصغاء الجيِّد الذي منحناه لجدَّتي طمعًا في فهم حكايتها. كلُّ هذا شَكَّلَ أرضيَّة ساحرة الجمال لتفاعلنا مع الحكاية الشعبيَّة، أحداثها معانيها،وأهدافها.
لا أذكر نفسي يوماً سبحت في بحر الخيال مثلما حصل لي ذلك مع جدَّتي، في كل أمسية من أمسيات الشِّتاء. والخيال بالنِّسبة لي كطفل صغير هو لون خاص ومميَّز من الاستمتاع واللَّذة!
لا أذكر نفسي يوماً إنتظرت أحداً، مشتاقاً على أحرِّ من الجمر، مثلما كنت أنتظر وصول جدَّتي، إلى بيتنا، كل مساء من أمسيات الشِّتاء.
لا أذكر يوماً في عمري تمتَّعت فيه برحلة، برفقة أحد، مثلما تمتَّعت برحلاتي مع جدتي، نعم من خلال حكايانا الشَّعبية، فقد زرنا جبال السِّند والهند، وبحر العرب، وبلاد الفرس والصِّين، وتعرَّفت على حيوانات لم أرها في حياتي، والتقيت بساحرات كثيرات ! وقطعت من البحور سبعة، ومن الجبال سلاسل، ومن الأنهار عشرة و.....
في حياتي الطّفليّة، لم أُناصر قضيَّة أو أحداً مثلما ناصرت أبطال الحكايات الشّعبية التي روتها لي جدَّتي ! فقد عشت كلَّ اللَّحظات مع "نص نصيص"، مع قاسم بابا, مع جبينِه، مع الشَّاطر حسن،و....
لقد ساعدتنا جدَّتي وحكاياها في اتِّخاذ الموقف من كلِّ حدث، في التَّفاعل معه، وتقديم المطلوب، من مؤازرةِ ومساندة وعون ودعم! وذلك حسبما وكيفما يتطلَّب الحدث.
لست وحيداً من المغرمين أو فيمن يُقيِّم بالإيجاب دور الحكاية الشَّعبيَّة في تربية الأطفال وصقل شخصيتهم، لا بل وَمَنْحِهم فرص العوم النَّاعم في محيطات الخيال الجميل أو التَّحليق فوق القمم على جناحيِّ حكاية أو الاستمتاع بروايتها، فخبراء التَّربية المعاصرون يرون أيضاً أنّ أكثر أنواع القصص نجاحاً في تنشئة الطفل نفسياً وفكرياً، هي الحكاية الشّعبيّة.
وكل ما أتمنَّاه أن يتمتَّع أطفالنا العرب وكلّ أطفال الدّنيا وهم صغار بألوانِ شتَّى من الحكاية الشّعبيّة، ولا يُحرَمون من راوٍ يروي لهم من هذه الحكايات ما لذَّ وطاب.
فلنزرع حكايانا الشعبية في أمسياتنا السَّاهرة مع صغارنا الأحباء كي نحصد غلالاً من الحبِّ والخير والفرح والقيم الجميلة.
المحب لكلّ الأطفال محمد بدارنه.
محرر مجلة وموقع الحياة للأطفال
ولمن يحبّ أن يستمع الى المقدّمة بصوت رئيس التّحرير فليضغط على الرّابط التّالي .
