تعالوا بنا نقرأ ذكريات فنّانتنا تمام الأكحل في يافا:
كنت أصحو صباح كلِّ يوم على صرير مُفَصَّلات شبابيك غرفة نومنا، أنا وأخوتي الصِّغار، هي بالحقيقة غرفة جدتي التي ولدت بها. ثم ولد فيها والدي ثم نحن جميعنا. وتُعرفُ هذه الغرفة بغرفة(العَقِدْ) لكثرة ما بها من عقودٍ وأقواس، كما هو المعروف بطراز البناء في يافا القديمة الجميلة، التي تُحاكي التاريخ بجميع عصوره.
صورة الفنانة اليافية تمام الأكحل.
تمام الأكحل تحمل مفتاح بيتها في يافا
تفتح أمي الشبابيك فيتسرّب الضوء، ثم النسمات العليلة، تحمل إلى أنفي عَبقَ زهر البرتقال، فيدخل إلى رئتيَّ. وأتثاءب وأنا على السرير، وينساب في أذني صوت أمي:
(يا الله صباح الخير يا تمام يا الله يمّا).
نتراكض وإخوتي على الحمَّام الواحد، لأعود لنفس الغرفة العَقد، فألبس مريول المدرسة المصنوع من غزل المجدل، وهو مقلم بالأزرق والأبيض..
لأجد أميِّ ابتدأت بجمع الفراش عن الأرض لتضعه على الصندوق الخشبيِّ الكبير، وعليه نقوشٌ نحاسيِّةٌ من أجمل ما رأيت في حياتي، وهذا اسمه(صندوق ستّي)،
يكاد لا يخلوا منه منزل في البلاد، فكانت أمي تضع فيه ملابسنا غير الموسميَّة، تُرَصُّ فوقه الفراش ثمَّ اللحف ثم المخدات فيسمى هذا كله ب"سدّة الفراش"، وتغطي أمي
هذه الشِّدَّة بشرشف جميل، ثم تسدلُ عليه ستارة جميلة، فلا يُرى من خلف الستارة شيء، تم تكنس أرض الغرفة المكسوة ببُسُط الصُّوف ذات الألوان والمساحات الجميلة،
كنا نقول عنها بسطٌ غزاوية نسبة لصناعتها بغزة. بعد ذلك، ألبس المريول(والشبرة البيضاء) والكلسات البيض، وتطارد قدماي الريح، أنا وإخوتي، ونمشي كقطيع من الإوزِّ الأبيض، كلٌّ يدخل إلى مدرسته، وأواصل سيري إلى مدرستي(الزهراء) في حيِّ النزهة، وعند مفرق مدخل شارع النزهة المنحدر إلى مدرستي، التقي بالعديد
من تلميذات نفس المدرسة.
ذكريات المذيع التلفزيوني هشام الدَّباغ:
خلال إحدى زياراته إلى مسقط رأسه يافا، كتب المذيع التلفزيوني اليافاويُّ المعروف هشام الدباغ، ذكريات عن يافا.. جاء فيها ما يلي:
ولدتُ في شارع أبو الجبين في حيِّ المنشية عام 1938م، وقد غادرتها مع من غادرها في الهجرة الجماعيّة مع العائلة إبِّان الأحداث عام 1948م، وكنت حينئذ في
الصفِّ الرابع ابتدائي بالمدرسة العامريِّة، وكنت أذهب إلى المدرسة يومياً، ماشياً من بيتي عبر شارع جمال باشا، لذا فلم تفارق صورة الشارع خيالي ألبتّة، وكان
قدومي إليها بعد تلك السّنين مدعاةً لتجديد هذه الذّكريات العزيزة، لذا فقد طلبت من سائق التكسي الذي أقلني من غزة إلى يافا ان ينزلني عند المدرسة العامرية مقابل مستشفى الدّكتور زهدي الدجاني، وبمجرّد نزولي، جاشت في نفسي تلك الذكريات وعصفت بي أحداث متلاحقة، مرت كأنها شريط سينمائي، وتمثّل أمامي الماضي البعيد،
وفي تلك اللحظة تذكرت أصدقاء الطفولة وزملاء صفِّي، زاهي دروزة، ومعتز الدرهلي، واسحاق الدباغ، وتيسير الدباغ، ومدير المدرشة ابراهيم مراد، ومعلم الصف محمد هيكل، ثم توجهت، بعد ذلك، عبر شارع جمال باشا، إلى أن وصلت إلى سينما الحمراء،وتذكرت أول قصيدة ألقيتها من نظمِ والدي عزمي الدباغ،
وكان عمري في ذلك الوقت سبع سنوات، وكانت سينما الحمراء تغصُّ بالجماهير، إذ كانت المناسبة مهرجاناً خطابياً، اعدته جمعية الشبان المسلمين في يافا.
يافا كانت تتغير بتسارع عجيب منذ حرب 1967م، فقد سُوِّيَ حيُّ المنشية بالأرض، وقامت على أرضه عمارات ضخمة، ولكن جامع حسن بيك، بقي شامخاً رغم عوادي الزمن، والمحاولات الأثيمة لهدمه، ولكن للبيت رب يحميه، فهو بيتٌ من بيوت الله التي تشهد على الظلم الذي لحق بأهل يافا فتشرَّدَ شعبها.
ومسجد يافا الكبير ما يزال صامداً أيضاً. يؤذِّنُ فيه للصلوات الخمس، وبمجرد دخولي إليه، وقت صلاة الظهيرة، تجمعَ حولي بعض أهالي يافا ممن بقوا فيها، وأخبرني الحارس ان ابن عمِّ والدي، المرحوم عبد القادر الدباغ، لم يشأ ان يهاجر مع من هاجر، وبقي في المسجد، حيث كان إمام المسجد في تلك الفترة. وأسَّس هناك مكتبة عامرة
حَوتْ على نوادر الكتب العربية في التفاسير، والتاريخ، والحضارة الاسلامية.
خرجت من المسجد برفقة أحد أبناء يافا، لألقي نظرة على منزل عمي المرحوم، علي الدباغ، وكان البيت يقبع تحت مدرسة حسن عرفة.
ولما وصلت إلى هناك، وجدت المنزل قد سوَّي بالأرض، وبالقرب من المسجد، أصرَّ أحد أبناء يافا، وهو الأستاذ مصطفى سيف، أن يستضيفني عنده، فبيته يطلُّ على البحر، وقريباً من المسجد، فأقمت ضيفاً عنده ثلاثة أيام، وكان يخرج معي كلَّ يوم لنتجول في مدينة يافا... كنت أُقبِّلُ البيوت والمساجد بعيني، وأتحسس بيدي الأبواب والشبابيك القديمة، وأطيل النظر عند الآرمات العربية، وأتناول طعام الغداء ملتهماً كمية وافرة من أسماك يافا الشهية... ومع كل لقمةٍ كانت غصَّةٌ وحسرة، متسائلاً:
متى نعود إليك يا مدينة الأحلام والزهور، ويا أرض البرتقال الحزين.
أقوال عن يافا واشعارٌ لها:
* يقول المؤرخ المقدسيُّ المعروف عارف العارف:
خَسِرَ العرب بسقوط يافا، مدينة من أقدم مدنهم تاريخاً، وأخصبها أرضاً، وأغناها مالأ وثقافة ورجالاً.
* وصف الشاعر العراقيُّ الكبير محمد مهدي الجواهري مدينة يافا، في حديث إذاعيٍّ له عام 1989م قائلا:
كنت قد زرت يافا أجمل ثغور العرب مرة واحدة. ونتيجة لهذه الزيارة فما زلت أشعر بالحسرة والألم لفقدان هذه المدينةالعربية الجميلة، وأعتقدُ أنَّ كلَّ من زارها
يشعر بما أشعر به من الحسرة والألم، وأقول أن من لم يزرها هو محظوظ، وكان الله في عون أهالي يافا.
*يافا الجميلة*
للشاعر الجواهري
ب"يافا" يوم حطَّ بها الرِّكابُ تَمطِّرَ عارضٌ ودجا سحابُ
ولفَّ الغادة الحسناء ليلٌ مريبُ الخطوِ ليس به شهابُ
وأوسعها الرَّذاذُ السَّحُّ لثماً ففيها من تحرُّشهِ اضطرابُ
و"يافا" والغيوم تطوف فيها كحالمة يجلِّلها اكتئابُ
كأنَّ الجوُّ بين الشمس تزهى وبين الشَّمسِ غطَّاها نقابُ
وقفت موزِّع َ النَّظرات فيها لطرفي في مغانيها انسيابُ
* وصف الدكتور أحمد صدقي الدجاني، أستاذ التاريخ المعروف يافا قائلاً:
إن يافا كان لها سماتٌ تميِّزُها على كثير من المدن: التنوعُ، والسماحة،
والمحبة، والأصالة، وكانت مدينة جذبٍ وصَهْر، وهي موطنٌ لكلِّ فلسطينيٍّ، وعاصمةٌ ثانية لكلِّ عربيّ.
* وقال الشاعر اليافيُّ محمود الحوت مخاطباً مهدَ طفولته وملعب صباه:
يافا لقد جفَّ دمعي فانتحبتُ دماً متى أراك؟ وهلْ في العمر من أمدِ
أُمسي وأصبحُ والذكرى مجددةٌ محمولةٌ في طوايا النَّفس للأبد
ما بال قلبي إذا ما سِرتُ في بلدٍ يصيح وَجدُهُ في الصَّدر وابلدي
مهما استقام له من عيشة رغدٌ وجدته هازئاً بالعيشة الرغد
تعبتُ لكنَّني ما زلتُ في تعبي أشكو إلى الله لا أشكو إلا أحد
* ويقول ابن يافا سعدُ يوسف الدجاني في كتابه" كي لا ننسى يافا":
لقد فقدنا جزءاً غالياً من بلادنا بالقهر لا بالتخاذل.
* ويصف الدكتور هشام الشرابي، بروفيسور التاريخ العربي المعاصر في جامعة جورج تاون الأميركية، مسقط رأسه يافا قائلاً:
تمثّلُ يافا ما قبل عام 1948م الفردوس المفقود. إنّها لا مثيل لها بهوائها المعطّر برائحة زهر البرتقال، وبرمالها البيضاء الناعمة، وبمسابحها ونواديها ومقاهيها،
وحياتها الثقافية المتميزة، إنها أجملُ المدن، ودرّةُ البحر المتوسط، والحياة فيها أفضل من الحياة في أيِّ مكان آخر.
* وقال المؤرخ الدكتور كامل السوافيري واصفاً يافا بما يلي:
فقد العرب مدينة يافا عروس فلسطين، وحسناء البحر المتوسط، ووسطى ثغوره، مدينة الثقافة والصِّحافة، والأدب والجمعيّات والأندية والرياضة، مدينة الجمال والمال،
والشّجر والزَّهر، والسِّحرِ والفتنة.
* وقال الشاعرُّ عبدُ العزيز ابو غوش واصفاً حبَّه لمدينة يافا بما يلي:
زرعتك في شراييني وقلبي ولا أخفي هواك ولا أخبِّي
إذا العزَّال قالوا الحبُّ ذنبٌ فيا يافا الحبيبة انت ذنبي
على شطآنك الولهى أقمنا منارَ الحُبِّ يحضن كلَّ حب
* وللنادي الأرثذوكسي في يافا نشيدٌ خاصٌّ من تأليف فضيلة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي، تقول كلمات النشيد:
لا تهن يا وطنُ سوف يصفو الزَّمنُ
ضامنُ النَّصرِ لنا هِمَمٌ لا تهنُ
وشبابٌ حينَ تَحْمَرُّ المآقي خشنُ
وسيوفٌ قضبٌ ورماحٌ لدُّنُ
ونفوسٌ عن فلسطين لا تمتهنُ
ويحَ من كاد لنا الأرواح قلَّ الثمنُ
نحن مهما اختلف الدين بنا والسننُ
اخوةٌ يجمعنا بالله هذا الوطن
* من قصيدة يافا للشاعر عبد الرحيم الشيخ يوسف
يافا سلامٌ من فتى بحماك قد جاء يطلبُ عزَّةً لثراكِ
شابَ الزمانُ ودمت أنتِ صبيّة البحر عُمركِ والهواء مداكِ
يافا مياه البحر تذرف دمعةَ تدمي النفوس وكلَّ قلب شاكِ
فلترجعي يافا كشمسٍ في الضحى ولتعبق الأزهار بين رباكِ
والبرتقال نشيدُ حبِّ أو وفا فوق التلال ومنه حلوُ لماكِ
*يافا بقلم عمر سكسك
أحبُّك يا بلدي
يا حبّي الأبدي
بروحي أفديك
يا أعزَّ من ولدي
يا يافا يا بَلدي
* من قصيدة: يافا
يافا لعلك تذكرين..ضجيجهم.. عند الأصيل...
ابكت عذارى الحيِّ.. أم خجلت لهم.. يوم الرحيل
ظنُّوا الهزيمة رحلةً..؟ والعودة في ركب... جميل؟
هلاَّ استماتوا فوق رابيةٍ على الشط... الظليل
لا شيء كالأرض الحبيبة يبتغى... في كل جيل
نعم الحياة بفيئها... وبمائها... ريُّ... الغليل
هل ودّعوا بيَّارةً ثكلى... بموجٍ، من... عويل؟
كم طاب طعمُ البرتقال- بسهل يافا... للعليل
ولكم شدا في بحرها الصَّيادُ... بالصوت البليل
وتوافد التُجَّارُ من نقب... وقدسٍ والجليل
والساعة الرَّعناءُ هل دقت على الوتر الذليل؟
أم علّها إختبأت بصومعة الزمان بلا بديل
وبشارع الحمراء ما دارَ من قال... وقيل
عن نجدةٍ... مزعومةٍ... كان الحديث ببعد ميل؟
تعليقات الزوار
1 .
يافا عروس البحر
محمود الجابر
تحيه حب وتقدير للقيمين على هذا الموقع واهديكم بعضا من شعر شاعرنا ابن المثلث راشد حسين يخص مدينتنا الحبيبه يافا انا يا سحابه عمري جبال الجليل انا صدر حيفا وجبهه يافا فلا تهمسي مستحيل الا تسمعين خطى طفلي القادمه على عتبات فؤادك الا تبصرين عروق جبيني تحاول لثم شفاهك انا في انتظارك اصبح شعري ترابا وصار حقولا واصبح قمحا واضحى شجر فجودي مطر من قصيده الى سحابه ارجو ان تنال اعجابكم