قِصَّة ، لا ، حِصَّة ...
بقلم الكاتبة : لبنى حديد
إحتارَ التَّلاميذُ في حصَّةِ قواعِدِ الّلغةِ الْعربيَّةِ ، ولاحَظَتِ الْمعلمةُ ارتباكَهُم في كيفيَّةِ تَحويلِ الْفعلِ في الزَّمنْ الحاضِرِِ إلى صيغَةِ الأمرِ .
فالقَضِيَّةُ أكبرُ مِنْ أَنْ يَحذِفَ الطَّالبُ حَرفَ الْمُضارعةِ مِنْ أوَّلِ الْفعلِ الْمُضارِعِ فََقَطْ ، ( وَهذا يَكفي فقط إذا كانَتِ بَقِيَّةُ الْحروفِ بَعدَ الْحَذفِ مُتَحَرَِّكَةً ، مثلُ : تُنَظِّفُ - نَظِّفْ . ) فَأحيانًا نَضطَرُّ لِزيادَةِ هَمزَةٍ في أوَّلِ الأمرِ ، وَالْهمزَةُ هذهِ لِوَحدِها تَظْهَرُ بِثلاثِ حالاتٍ : مَرَّةً مَضمومةً وأُخرى مَكسورَةً وَنَراها أحيانًا مفتوحَةً مثلُ: أُرْكُضْ ، إِلْعَبْ وَأَكرِمْ، ناهيكَ عن حذفِ حرفِ الْعِلَّةِ مِنَ الْفِعلِ الْمُعتَلِ عِندَ تَحويلِهِ إلى الأمرِ مثلُ : تَقومُ - قُمْ وَ تَخشى - اخشَ ..
عندئذٍ تراءى أمامَ المعلمةِ طَيفَُ الشَّاعرِ العظيمِ المتنبي ، فابتَسمَتْ بِسِرٍّ وَكَأنَّها اكتشفتْ كَنزًا ، فاستعانَتْ ببيتينِ مِنْ شعرِهِ كيْ يُساعِدا تلاميذَها في فهمِ وَاستيعابِ صيغَةِ الأمرِ ، فقالتْ لهُم : اسمَعوا يا أعِزَّائي ما سأقولُهُ لَكُمُ الآنَ ، ثُمَّ حاوِلوا أن تشرحوا ما سمعتُم منَِّي .
سَمِعَ التَّلاميذُ باهتمامٍ بالغٍ ما تَفَوَّهَتْ بهِ المعلمةُ ، ثمَّ ضحكوا ونظروا إلى بعضِهم البعضِ وهتَفَ أمجدُ: معلمتُنا للعربيَّة تتكلَّمُ الفارسيَّة . فَأومَتْ بِرأسِها أنْ لا ..
وصاحَ عُدَي : لا بُدَّ أن تكونَ معلمتُنا قد تكلَّمتِ اللُّغةَ الهنديَّةَ .. ومرَّةً أُخرى
أومَتْ المعلمةُ بِرأسِها أنْ لا ..
فَتَساءَلَتْ طالبتُها الذَّكية نور: هلْ هذِهِ اللُّغةُ هِيَ السِّنسكريتيَّةُ ؟ فَضَحِكَتِ المعلمةُ وأجابَتْ بالنَّفيِ ، عِندَها طَلَبتْ منها الطَّالبةُ حَلا أن تُعيدَ ما تكلَّمتْ بهِ ، فَأعادَتِ المعلمةُ قولَها بسرعةٍ فاستغرَبَ تلاميذُها أكثر ، وَتَساءَلوا : ماذا يكونُ هذا يا ترى؟؟
لكنَّ المعلمةَ أحبَّتْ أن تساعدَ طلابَها في فهمَ بيتَيِّ الشِّعرِ ، فقالت لهُم : ما رأيُكُم أن أكتبَ لكُم ما قُلتُهُ الآنَ على اللّوحِ أمامَكم وعليكم أن تشرحوا ما جاءَ فيهِ . فَتَساءَلَ الطَّالبُ سَُهيل : وهل ما قُلتِهِ الآنَ يُكتَبُ؟ إنَّهُ مزيجٌ من لُغاتٍ غريبةٍ...
عِندَها استَدارتِ المعلمةُ بخفَّةٍ وكَتَبَتْ بِخَطٍّ واضِحٍ وأنيقٍ :
عِشِ ابْقَ اسْمَ سُدْ قُدْ جُدْ
مُرِ انْهَ رَفِ اسرِ نَلْ
عِظِ ارمِ صِبِ احمِ اغزُ اسبُ رع ذِع دِلِ اثنِ نَلْ
وفَجاَةً شعَرَتِ المعلمةُ أنَّ الوقتَ يُداهمُهم، وَأنَّ الحصَّةَ لا بُدَّ وأنْ تنتهيَ ، فَسهَّلت لِطُلابِها المُهمَّةَ وقالَتْ لهُم: لماذا ابتعدتُم عن موضوعِنا الرَّئيسيِّ ؟ أيُّ لُغاتٍ هذه الَّتي خطَرَتْ ببالِكم وَأنسَتْكُم لُغَتَنا العربيَّةَ ، فنحنُ ما زلنا في حصَّةِ اللُّغةِ العربيَّةِ وَموضوعنا عن أفعالِ الأمرِ ليسَ إلا ..
فصديقُنا ، الشَّاعرُ العظيمُ ، المتنبي
أبدَعَ حينَ طُلِبَ منهُ بَغتةً أن يمدَحَ سيفَ الدَّولةِ فارتجلَ هاذينِ البيتينِ منَ الشِّعرِ، وبكلِّ طلاقةٍ وسلاسةٍ أمرَ مَمدوحَهُ بأفعالِ مديحٍ شائِقَةٍ ، وتمنَّى لهُ أن يعيشَ فقالَ لهُ : عِشِ ، وتمنَّى لهُ أن يبقى فقالَ لهُ : ابقَ ، ولما كانَ البقاءُ للهِ وحدَهُ استَدرَكَ حالاً وقالَ لهُ : اسمَ ، فالسُّموُ أجمل ، والسِّيادةُ تليقُ بِهِ لذلكَ لم ينسَ أن يقولَ لهُ : سُدْ ، وَمَنْ يَسُدَ يُصبِح قائِدًا لذلكَ قالَ لهُ: قُدْ ، والقائِدُ لا بُدَّ أن يتحلَّى بالكَرَمِ والجودِ لذلكَ قالَ لهُ : جُدْ ، كذلكَ لا بُدَّ للقائِدِ أنْ يأمُرَ وَأنْ ينهى شعبَهُ ورعيتَه لذلكَ قالَ لهَ : مُرْ وَانْهَ ، وأحيانًا لا بُدَّ للقائِدِ أن يكونَ رءوفًا فقالَ لَهُ : رَفْ ، كذلِكَ لا غنى عنِ الأسراءِ ليلاً فقالَ لهُ : اسْرِ ، وَأخيرًا خَتَمَ المتنبي عجْزَ البيتِ الأولِ بِأُمنيةٍ جميلةٍ وهيَ أنْ ينالَ سيفُ الدَّولَةِ مُبتَغاهُ فقالَ لهُ : نَلْ ..
تَنَهَّدَ الطُّلابُ بلَهفَةٍ وتشويقٍ واستعطفوا معلمتَهم أنْ تُكمِلَ تفسيرَ الأفعالِ في البيتِ الثَّاني ، لكنّ الغرورَ لَبِسَها فقالتْ لهم : وَالآنَ قَدْ جاءَ دورُكم ، ها قَدْ عرِفتُم أنَّ البيتَ الأوَّلَ مكوَّنٌ مِن أحَدَ عَشَرَ فعلَ أمرٍ معتل, معظمُها مكون من حرفينِ فقطْ, والبيتُ الثاني ما هوَ إلا شقيقٌ للأوَّلِ ، يَحتوي أيضًا على أحَدَ عَشَرَ فعلَ أمرٍ معظمُها مكوَّنٌ من حرفينِ.
ومِسكُ الختام دعوةٌ منِّي ، لكم يا عشَّاقَ اللُّغةِ العربيَّةِ، للتبحُّرِ في البيتِ الثَّاني وكشفِ مصدرِ الأفعالِ فيهِ أو تحويلها إلى الزَّمنِ الماضي.
عندها وقفَ الطَّالبُ رازي وهتفَ وكأنَّ المتنبيَ أمامَهُ: لقد تعلَّمْنا في هذهِ الحصَّةِ قِصَّةً لن ننساها أبَدًا ، فكلَّما مرَّ في حديثِنا فعل أمرٍ سوفَ نتذكَّرُ المتنبي ، فقد علَّمَنا درسًا في الأمرِ،
فاسمُ يا شعرهُ نحوَ القمَّةِ والعالميَّة
وارمِ سهامَك يا طالبَ المَجد في الأبجديَّة
ونَلِ العلمَ مع الضَّاد وفنِّ العربيَّةِ ...