شَبَكَتْ هديل الصَّغيرة يُمناها بيُسرى أخيها فارس، وراحا يطوفانِ معاً شوارعَ يافا، من سَاحَةٍ إلى سَاحَة، من شارِعٍ إلى زقاق، من حارةٍ لأخرى.
يتنقَّلان مَعاً من جامِعٍ إلى كنيسة، ومن كنيسةٍ إلى جامِع، والله واحدٌ للجميع. يُمتِّعانِ الأنظارَ بشاطئ البحرِ السَّاكِنِ على خصرِ المدينة، يتمعّنان في حَرَكَةِ الأمواج الهادرة.
واختلطت روائح المدينة في مجرى أنفيهما، مزيجٌ من رائحةِ البرتقال اليافاويِّ الشمّوطيِّ المعطَّر، ورائحة الأسماك الطازجة، ورائحة التوابلّ المنبعثة من مطاعم المدينة، ومخبز أبو العافية.
فارس وهديل الخربوش في شطحة يافية بلوحة الفنانة لودا جلبشك
فرح فارسٌ، وفرحتْ هديل لهذا المشوار الجميل، لا بل طارا من الفرح، وإذ بهما يقفان عند قارب صغير يرسو في نهر الجريشة، على مسافةٍ ما جنوبي المدينة، أو قلْ شمالي الحبيبة يافا. لم تمضِ ثوانٍ حتى جَدَّفَ فارس بِساعدَيْهِ القارب، فانطلق بهما يرقُصُ على حَرَكَةِ الموج النَّاعم، وراحت هديل تغني:
أذكر يوما كنت بيافا خبِّرْنا خَبِّرْ عن يافا وشراعي في مينا يافا يا أيَّام الصَّيد بيافا نادانا البحر ويومٌ صحو فهيَّأناه المجدافا نلمح في الخاطر أطيافا عدنا بالشَّوق إلى يافا فجرا أقلعنا زندا وشراع في المطلق ضِعْنا والشَّاطئ ضاع هل كان الصَّيْدُ وفيرا وَغَنِمْنَا منْهُ كثيرا قل من صُبحٍ لمساء نلهو بغيوب الماء لكنْ في الليل في الليل جاءَتْنا الرِّيح في الليل يا عاصفةً هوجاء وصلت ماء بسماء عاصفة البحر الليليَّة قطعان ذئاب بَحْرِيَّة أنزَلْنا الصَّاري أمسَكْنا المجداف نقسو ونداري والموت بنا طاف قاوَمْنا الموج الغاضب غوَّطْنا البحر الصَّاخب وتشد وتعنف أيدينا ويشدُّ يشدُّ القارب ويومها قالوا: إننا ضائعون :إننا هالكون في الأبد البارد لكننا عُدْنا عُدْنا مع الصَّباح جئنا من الرِّياح كما يجئ المارد وَدَخَلْناها مينا يافا يَا طيبَ العود إلى يافا وملأنا الضفّة أصدافا يا أحلى الأيَّام بيافا كنَّا والريح تهبُّ تصيح نقول سنرجع يا يافا واليوم الريح تهبُّ تصيح ونحن سنرجع يا يافا وسنرجع نرجع يا يافا وسنرجع نرجع يا يافا
وسنرجع نرجع يا يافا وسنرجع نرجع يا يافا
وانتهى بهما المشوار البحريُّ عند شاطئ العجمي في يافا. نزلا من القارب، وإذ بجدّهِما وجدَّتهما على الشّاطئ يلعبان بالرّمال والحصى كالصِّبية، ينتظران حفيديهما، فارساً وهديل، مثلما تنتظر العصفورة فراخها. ركضَ فارسٌ، وركضت هديل في سباق إلى أحضان الجدِّ والجدّة الدافئة، يطمعان في قبلة ساخنةٍ من أحديهما أو كليهما.
ودار الحديث المعسول بعد القبلِ المعسَّولة بين الأحفاد والأجداد:
هديل: أشعر بارتعاش في جسدي، فجمال يافا يدغدغ عيوني، ونسيمها قد داعب رموشي. بالله عليك يا جدّي، حدثني عن يافا! عن طعم برتقالها، ورائحة البيارات فيها! حدثني عن مينا يافا! عن أهلها الطيبين! عن السَّمك في بحرها! وعن الفلوكه والقارب والجندول!
فارس: وأنا يا جدَّتي، أشعر كأنِّي في جنة النعيم، لكني مشتاقٌ للمزيد، فحدِّثيني عن طفولتك في يافا! مدرستك وطلاب صفك! عن الرحلات والمشاوير! عن النوادي والحواكير! عن مساجدها وكنائسها! عن أحيائها وساحاتها! عن وعن...
سَقَطَتْ من عين الجدّ دمعةٌ، سَالَتْ على خدِّهِ ، وانْهَمَرَتِ الدُّموع من عيني الجدّة كقطرات الندى المتزلِّجة على الورد الجوري! فالحبُّ المزروع في قلبيهما قد حرَّك كلَّ المشاعر الرقيقة في فؤاديهما .
الجدّ: ما أحلى الحديث عن يافا! وما أجمل ذكرياتي فيها! فهي عروسٌ اصيلة موصوفة بجمالها، وأنا مولودُ فيها، ترعرتُ فيها، لعبت"الغميضة" و"طاق طاق طاقية" و"فر يا حمام" في حاراتها وشوارعها. سبحت في بحرها، على صدري وعلى ظهري، تعلّمت الأبجدية في مدارسها، فغنَّيتُ لها من قلبي، وانتسبت لنواديها ومكتباتها، قطفت، وأكلت من برتقالها وليمونها. صدّرت أرطالاً من أسماكها اللذيذة وخصوصاً سمك سلطان إبراهيم، وعصرتُ أرطالاً من ليمونها على أطباق السمك اللذيذة!!
فالسمك من بحر يافا، والليمون من بيارتها!! وأنا مثلها نبتةٌ نبتت في يافا!! من أين أبدأ حديثي عن يافا، يا فارس ويا هديل؟
الجدّة: آه يا أيّام الصِّبا في حاراتك يا يافا! أذكر منها أحاديث السَّمَر واغانيه، وألعاب الطفولة ومرحها، أذكر الكثير عن سهرات رمضان ولياليه، عن"العِزبَةِ" في روبين،
عن عيد الميلاد المجيد وشجرة العيد وبابا نويل!! عن وعن...، وراحت الجدَّة تُقبِّلُ حفيديها قُبلات ساخنة، وتغني لهما ومعهما:
في عطلتنا الصيفيِّة واحنا نْخَلَقْنا يافاويّه
صيّفنا أحلى تصييفه على شط يافا العربية
لالالالالالا
صيَّفنا وشو طالع بالإيد
حُبك يافا كل يوم بيزيد
حُبك في قلبي
ما انت يا قلبي
حبك بروحي وعيني
لالالالالالا
هديل: حدِّثنا يا جدّي عن كلِّ شبر في يافا، عن البلدة القديمة،وحيِّ المنشية، وحي العجمي، وعن مساجد يافا وكنائسها، عن أهلها الطّيبين، حدِّثنا أيضاً عن طفولتك فيها!
برج الساعة
الجدّ: يافا يا أحفادي، هي عروس السَّاحل، أو درّةُ البحر الأبيض المتوسط، أحبت أهلها حباً كبيراً كما أحبها كل الناس، فكانت قلباً حنوناً لكل غريب، حتى باتت تسمَّى أمَّ الغريب، او حامية المستضعفين، لا، بل سُمِّيت أيضاً أمَّ اليتامى.
الجدّة: نعم يا أحفادي، ولحسن جمالها، وعراقة حضارتها، ونسيمها العليل، وخصوبة أرضها، فقد تعرَّضتْ للغزو والغزوات عدة مراتٍ، على مر العصور.
هديل: متى ولدت مدينتنا يافا؟ ومن أين لها بهذا الاسم الجميل؟ من غزاها يا ترى؟
الجدّ: قبل أن أجيبك يا هديل عن سؤالك هذا، خطرت على بالي أغنية حلوة،هيا بنا نغنيها معاً:
أنا بلدي يافا
يافا أُم الكل
فيها الورد الأحمر
فيها كمان الفل
فيها بحر كبير
فيها كمان عصافير
بتهدِّي وبطير
عالشط الكبير
بابا نْوَلد فيها
وماما رِبْيت فيها
يا رب إتْخلِّيها
يافا حبيبة الكلّ
وُلدت الحبيبة يافا قبل خمسة آلاف عام، في مكان على شاطئ البحر المتوسط، يعلو عن سطح البحر 40 متراً. فقد أنشاها أجدادنا الكنعانيون وسمَّوها يافا، فهي تعني في لغة الكنعانيين"الجميلة"، وقد ورد اسمها"يابو أو" باللغة البابلية، و"يافو" باللغة العبرية، و"يوبي" باللغة اليونانيّة، أما الفرنجة فأطلقوا عليها الاسم"جافا-jaffa"،
لكنّ العرب حافظوا على اسمها الناعم "يافا" ، فهو اسم على مُسَمَّى! ولا بد أنّكم تعلمون بحادث النبي يونس، الذي ابتلعه الحوت، وقذفه إلى الشاطئ.
لقد وقع هذا الحادث في موقع بين يافا ومصب نهر روبين، قد يكون هذا الموقع "النبي يونس"، وقد يكون "تل يونس".
الجدّة: نعم يا أحفادي، يافا كانت عروساً، بل ملكة لكل العرائس. ومنذ ولادتها، كسائر المدن الكنعانية، كانت يافا مملكة بحد ذاتها، تتألف من قلعة حصينة في أعلى الرّابية،
فيها قصر الملك، وأماكن العبادة، بيوتها الحجريِّة الصغيرة وُزِّعت على المنحدر باتجاه الساحل، كأنها عِقدٌ من اللؤلؤ على عنق العروس!
والمدينة القديمة أحيطت بسور حجري قويٍّ وله بوابة واحدة، وعلى فكرة، فقد كانت يافا دائماً، النافذة الهامة لفلسطين مع قارات آسيا،وأوروبا وإفريقيا.
تنهَّدَ الجدُّ تنهيدة عميقة، تبعته الجدة بأخرى، وراح فارسٌ وهديل يحبسان أنفاسهما، ويلتقطانها، وكأن الموّال يتكسر في حنجرتيهما فتعلو كلمات الأغنية الشعبية:
يا أولاد حارتنا يويا
من حيّ العجمي يويا
بردقانّا يافاوي يويا
بلونه الذهبي يويا
بضوّي بلدنا يويا
أزهاره بتشفي يويا
يا أولاد حارتنا يويا
هاتوا الشبكة يويا
تنصيد السمكة يويا
والسمك بيلعب يويا
في بحر بلادي يويا
يا رب احفظلي يويا
يافا هالحلوة يويا
يا اولاد حارتنا يويا
هديل: جدّي! قد نسيت أن تحدثنا عن غزاة المدينة عبر التاريخ؟
الجدّ: ذاكرة جدتكم بالأرقام والتواريخ، أقوى من ذاكرتي، فلتسعفنا أُمٌّ حافظٍ بالمعلومات!
الجدّة: حسناً يا أحفادي.
حين احتلَ المصريون الساحل الفلسطيني في العام 2500ق.م.، صارت يافا قاعدة بحرية بعد ان احتلها قائدهم "تُحُتْمس الثالث".
أما الحكم الآشوريُّ والبابليُّ والفارسيًّ ليافا، فكان في الفترة بين 803ق.م. و332ق.م. وما زالت يافا تذكُرُ "سِنحَاريبَ الآشوريِّ" الذي
خرَّبَ المدينة في العام 587ق.م.، وتذكُرُ"كورشَ" الذي دخلها في العام 538ق.م.
أما المرحلة اليوناينة الهلنستيّةُ في يافا، فامتدت من العام 331ق.م.، وحتى العام 66ق.م.! في هذه الفترة انتعشت االعلاقات التجارية مع الجزر اليونانية
في بحر إيجه، لدرجة أن الاسكندر المقدونيِّ اليونانيَّ اقام وأنشأ أول دار لِسَكِّ النقود في يافا، وتعتبر هذه الدار الأولى من نوعها في فلسطين.
إذاً فالحقبة اليونانية ابتدأت مع سيطرة المقدوني على مدينة يافا عام 331ق.م.
وفي العام 30ق.م. جاء البطالسةُ إلى يافا في الفترة الواقعة بين 630-336م عاد العرب إلى مدينتهم يافا بقيادة القائد عمرو بن العاص، فأعاد للمدينة اسمها وطابعها العربيَّ الأصيل.
فجأة تنهدت الجدّة تنهيدة عميقة، وكأنها تطلق آهات من الألم، وقالت: تعرضت يافا لمذبحتين، ومأساة ترحيل أليمة، الأولى عام 1775م حينما حاصرها والي مصر، محمد أبو الذهب، فنكَّلَ بأهلها، وقتل منهم ما يزيد عن 5000 شخص، والثانية عام 1799م حينما غزاها نابليون فذبح من سكانها ما يزيد على 6000 شخص، حتّى انتشر فيها وباء الطّاعون الذي أصاب جنود نابليون، لدرجة أنّه كان أحد الأسباب التي أدَّتْ إلى فشل الحملة الفرنسيّة على فلسطين.
تعليقات الزوار
1 .
شكراً للملاحظات
مجلة الحياة للأطفال
تحية لك أخ خالد ، وقد تم تصحيح الأخطاء المطبعية مع الشكر .
acfa@zahav.net.il - 2010-12-11 12:24:44 - حيفا
2 .
جميل جدا
خالد اغبارية
اخواني ان تحكوا لنا عن بلادنا جميل جدا ومشكورين جدا
ولكن يوجد هناك بعض الاخطاء المطبعية فيا ريت تفاديها
مع كل الاحترام
خالد اغبارية