قصّة: أُحِبُكِّ أُمِّي
بقلم جميلة يحياوي
صَرَخَتْ دَجَاجَةٌ بِأعْلَى صَوْتِهَا: كَتْ .. كَتْ ..كَتَ، لِتُعْلِنَ لِجَمِيعِ مَنْ فِي المَزْرَعَةِ أنّهَا وَضَعَتْ بَيْضَةً جَدِيدَةً.
وَهَكَذَا، صَارَتْ لَدَيْهَا عَشْرُ بَيْضَاتٍ، وَضَعَتْهَا بِعِنَايَةٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الخُمِّ، بَعْدَ أنْ فَرَشَتْ لَهَا القَشَّ، حَتَّى لاَ تُصابَ صِغَارُهَا بِأَذَى حِينَ تَخْرُجُ
إِلَى الدُّنْيَا.
احْتَضَنَت الدَّجَاجَةُ بَيْضَهَا تَحْتَ جِسْمِهَا، وَغَطَّتْهُ بِرِيشِهَا لِتُوَفِّرَ لَهُ الحَرَارَةَ الضَّرُورِيَّةَ لِلْفَقْسِ، وَكَانَتْ لاَ تَتْرُكُهُ إِلاّ لِلْأَكْلِ، ثُمَّ تَعُودُ مُسْرِعَةً إلَيْهِ.
بَعْدَ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، أَخَذَتْ صِيصَانٌ صَغِيرَةٌ تُحَطِّمُ جُدْرَانَ البَيْضِ بِمَنَاقِيرِهَا، لِتَخْرُجَ إِلَى الدُّنْيَا، وَهِيَ مَكْسُوَّةٌ بِزَغَبٍ أصْفَرَ نَاعِمٍ.
خَرَجَتْ جَمِيعُ الصِّيصَانِ مِنْ بَيْضِهَا، إِلاّ وَاحِدٌ تَأَخَّرَ بِيَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ،
انْتَظَرَتْهُ أُمُّهُ الدَّجَاجَةُ بِشَوْقٍ كَبِيرٍ، وَحِينَ أَطَلَّ عَلى الدُّنْيَا،
اسْتَقْبَلَتْهُ بِحُبٍّ وَحَنَانٍ، وَسَمَّتْهُ "كُوكِي"
كَانَتْ الصِّيصَانُ الصَّفْرَاءُ الصَّغِيرَةُ، لاَ تَتْرُكُ حُضْنَ أُمِّهَا،
إِلاَّ لِتَنَاوُلِ الغِذَاءِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِ لِتَنْعَمَ بِالدِّفْءِ.
وَكَانَتْ تَسِيرُ فِي مَجْمُوعَةٍ، تَتْبَعُ أُمَّهَا حَيْثُمَا حَلَّتْ،
وَإِذَا تَفَرَّقَتْ تُنَادِي عَلَيْهَا أُمُّهَا وَتَجْمَعُهَا مِنْ جَدِيدٍ، وَإِنْ ضَاعَ أحَدُهَا، تَبْحَثُ عَنْهُ وَهِيَ تُنَقْنِقُ، وَلاَ تَهْدَأُ حَتَّى تَجِدَهُ.
أَخَذَتِ الدَّجَاجَةُ تُعَلِّمُ أَبْنَاءَهَا الصِّغَارَ، كَيْفِيَةَ اسْتِعْمَالِ مَنَاقِيرِهِمْ لِلْأَكْلِ، وَالْتِقَاطِ حُبُوبِ الذُّرَةِ وَالقَمْحِ وَالشَّعِيرِ، وَلِلْبَحْثِ عَنِ الدُّودِ فِي الأَرْضِ، وَأَيْضًا لِلدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
كَمَا لَقَّنَتْهٌمْ لُغَةَ التَّفَاهُمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَمَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الدَّجَاجِ؛ فَقَامَتْ تُصْدِرُ أَمَامَهُمْ عَشَرَاتِ الأَصْوَاتِ المُخْتَلِفَةِ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الإِحْسَاسِ بِالخَطَرِ، أَوِ الغَضَبِ، أَوِ الفَرَحِ..
وَ حَرَصَتْ _خَاصَّةً_ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ الاهْتِمَامَ بِنَظَافَتِهِمْ، وَبِمَظْهَرِهِمْ الخَارِجِيِّ، وأَيْضًا كَيْفِيَةَ العِنَايَةِ بِرِيشِهِمْ، بِتَنْظِيفِهِ، وَتَرْتِيبِهِ، وَتَمْلِيسِهِ بمناقِيرِهِمْ وَأَصَابِعِهِمْ.
و لِمُحَارَبَةِ الجَرَاثِيمِ وَالطُّفَيْلِيَاتِ مِنْ أَجْسَامِهِمْ، قَامَتْ تَسْتَعْرِضُ أَمَامَهُمْ حَرَكَاتٍ، عَلَّمَتْهُمْ مِنْ خِلاَلِهَا كَيْفِيَةَ أَخْذِ حَمَّامِ الغُبَارِ
الضَّرُورِيِّ للْحِفَاظِ عَلَى صِحَّتِهِمْ.َ
ثُمَّ وَبِمُرُونَةٍ، أَخَذَتْ تُعَلِّمُهُمْ القِيَامَ بِبَعْضِ الحَرَكَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ، فَرَاحَتْ تُمَدِّدُ أجْنِحَتَهَا تَارَةً، وَ تَطِيرُ لِمَسَافَاتٍ قَصِيرَةٍ تَارَةً أُخْرَى.
وَبَعْدَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ خُرُوجِهِ إِلَى الدُّنْيَا، مَلَّ "كُوكِي" حَيَاتَهُ تِلْكَ، فَقَرَّرَ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ أُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ، وَيَعِيشَ حُرًّا دُونَ قُيُودٍ، فَغَافَلَ الجَمِيعَ،
وَانْطَلَقَ مُسْرِعًا إِلَى خَارِجِ المَزْرَعَةِ، يَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ أَوْسَعَ،
وَأَرْحَبَ، وَأكْثَرَ تَسْلِيَةَ وَمُتْعَةً.
حِينَ انْتَبَهَتْ الدَّجَاجَةُ إِلَى غِيَابِ اِبْنِهَا "كُوكِي" عَنِ المَجْمُوعَةِ،
أَخَذَتْ تُنَقْنِقُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، وَهِيَ تَجْرِي فِي كُلِّ الاتّْجَاهَاتِ.
طَالَ بَحْثُ الدَّجَاجَةِ عَنْ صَغِيرِهَا، وَحِينَ يَئِسَتْ مِنَ العُثُورِ عَلَيْهِ، جَمَعَتْ صِيصَانَهَا، وَعَادَتْ بِهِمْ إِلَى الخُمِّ، وَهِيَ تُنَفْنِقُ بِعِبَارَاتِ الحُزْنِ وَالأَلَمِ.
انْطَلَقَ"كُوكِي" فَرِحًا، سَعِيدًا بِالحُرِّيَةِ، سَائِرًا إِلَى وِجْهَةٍ غَيْرِ مُحَدَّدَةٍ.
وَبَعْدَ قَطْعِهِ مَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ، أحَسَّ الصُّوُص الصَّغِيرُ بِالتَّعَبِ، فَجَلَسَ تَحْتَ شَجَرَةِ بَلُّوطٍ لِيَسْتَرِيحَ، وَبَيْنَمَا كَانَ يَسْتَرْجِعُ شَيْئًا مِنْ قُوَاهِ الخَائِرَةِ،
سَقَطَتْ عَلَى رَأْسِهِ حَبَّةُ بَلُّوطٍ، فَقَفَزَ هَارِبًا، وَهُوَ يَرْتَعِدُ خَوْفًا.
وَلَمَّا بَدَأَّ الظَّلاَمُ يُخَيِّمُ عَلَى الغَابَةِ، أَحَسَّ بِخَوْفٍ شَدِيدٍ، وَتَأَسَّفَ عَنِ الأَمَانِ الَّذِي كَانَ يُحِسُّ بِهِ بِقُرْبِ أُمِّهِ، فَقَالَ: كَمْ كُنْتِ قَوِيَّةً يَا أُمِّي ا
وَحِينَ كان الصُّوصُ المِسْكِينُ، جَالِسًا فِي العَرَاءِ،
غَارِسًا رَأْسَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، وَكَأَنَّهُ كُرَةٌ، تَكَادُ تَتَقَاذَفُهَا الرِّيَاحُ،
بَدَأَ يَشْعُرُ بْقَسْوَةِ الجَوِّ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا اشَتَدَّ البَرْدُ، زَادَ جِسْمُهُ ارْتِجَافًا، فَتَذَكَّرَ حُضْنَ أُمِّهِ الدًّافِئِ، وَقَالَ: كَمْ كُنْتِ حَنُونَةً يَا أُمِّي ا
قَضَى الصُّوصُ الصَّغِيرُ لَيْلَةً صعبة، كَانَتْ أطْوَلَ اللَّيَالِي فِي حَيَاتِهِ
وَفِي الصَّبَاِح البَاكِرِ، قَرَّرَ العَوْدَةَ إِلَى أُمِّهِ وَاخْوَتِهِ.
وَأَثْنَاءَ سَيْرِهِ، أَحَسَّ بِجُوعٍ شَدِيدٍ يُمَزِّقُ أَمْعَاءَهُ،
بَحَثَ طَوِيلاً عَنِ الحَبِّ فَلَمْ يَجِدْ، فَأَخَذَ يَحْفِرُ الأَرْضَ بِمِنْقَارِهِ،
حَتَّى ظَهَرَتْ لَهُ دُودَةُ أَرْضٍ حَمْرَاءُ سَمِينَةٌ، خَافَ الصُّوصُ مِنْهَا،
وَابْتَعَدَ عَنِ المَكَانِ هَارِبًا، فَتَذَكَّرَ أُمَّهُ الّتِي كَانَتْ تَحْمِيهِ مِنَ الأَخْطَارِ،
وَتُدَافِعُ عَنْهُ بِمِنْقَارِهَا، أمّهُ الّتِي صَارَعَتْ فِي يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ ثُعْبَانًا
تَسَلَّلَ إِلَى الخُمِّ، وَاسْتَطَاعَتْ أَنْ تُهَدِّدَهُ بِمِنْقَارِهَا، حَتَّى خَافَ، وَعَادَ مِنْ حَيْثُ أَتَى، تَنَهَدَّ الصُّوصُ، وَقَالَ: كَمْ كُنْتِ شُجَاعَةً يَا أُمِّي ا
وَاصَلَ الصُّوصُ طَرِيقَهُ إِلَى أُمِّهِ، وَهُوَ خَائِفٌ وَجَائِعُ، وَأَثْنَاءَ السَّيْرِ،
رَأَى قَطِيعًا مِنَ الأَغْنَامِ يَرْعَى، وَقَفَ يَنْظُرُ إِلَى الخِرَافِ الصَّغِيرَةِ
وَهِيَ مَعَ أُمَّهَاتِهَا: فَرَأَى خَرُوفًا يَنْهَلُ الحَلِيبَ مِنْ ضِرْعِ أُمِّهِ،
وَآخَرَ يُلاَعِبُ أُمَّهُ وَتُلاَعِبُهُ، وَآخَرَ يَلْهُو مَعَ خِرَافٍ صَغِيرَةٍ مِثْلِهِ.
فَقَالَ: كَمْ كُنْتِ لَطِيفَةً يَا أُمِّي ا
أحَسَّ الصُّوصٌ الصَّغِيرُ بِحُزْنٍ كَبِيرٍ يَعْصُرُ قَلْبَهُ، وَتَذَكَّرَ أَهْلَهُ، وَهُوَ نَادِمٌ أَشَدَّ النَّدَمِ لِابْتِعَادِهِ عَنْهُمْ..
وَبَيْنَمَا كَانَ "كُوكِي" يَسْتَرِجِعُ ذِكْرَيَاتِهِ السَّعِيدَةَ،
وَهُوَ يَبْكِي وَيَشْهَقُ، سَمِعَ نَقْنَقَةَ دَجَاجَةٍ، مَمْزُوجَةً بِصَوْصَوَةِ صِيصَانٍ صَغِيَرةٍ، قَفَزَ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَالَ، وَهُوَ يَكَادُ يَطِيرُ مِنَ الفَرَحِ: إِنَّهَا أُمِّي، وَمَعَهَا إخْوَتِي.
أَقْبَلَ الصُّوصُ الصَّغِيرُ نَحْوَ أُمِّهِ، ارْتَمَى فِي حُضْنِهَا، وَقَالَ:
كَمْ أَنْتِ رَائِعَةٌ يَا أُمِّي ا
وَكَانَ لِقَاءً جَمِيلاً، نَسِيَ فِيهِ "كُوكِي" الخَوْفَ وَالجُوعَ وَالبَرْدَ.
وَعَاهَدَ أُمَّهُ أَنْ يَسْمَعَ كَلامَها، وَأَنْ لاَ يَبْتَعِدَ عَنْهَا بَعْدَ اليَوْمِ.
وَعَادَ مَعَ إخْوَتِهِ، فِي مَجْمُوعَةٍ، يَتْبَعُونَ أُمَّهُمْ،
وَهُمْ يُغَنُّونَ: صَوْ.. صَوْ.. صَوْ..