مِنَ العلماءِ مَنْ بَرَز في أكثر من لَوْنٍ من ألوانِ العِلْمِ والفنِّ، وإنْ غَلَبَتْ شهرتُه في واحدٍ منها. وينطبقُ هذا على كثير من علمائِنا، ومنهُم إسحقُ الموصِلِيُّ، العالِمُ الأَديبُ والذي كان دُرَّةَ عَصْرِهِ في الغِنَاءِ.
اسمُه إسحقُ بنُ إبراهيمَ بنُ ميمون التميميُّ، وكُنْيَتُهُ أبو محمد، وهو من العراق وُلِد سنة 150هـ (767م). وأبوه إبراهيمُ المَوْصِلِيُّ المغنّي المشهورُ والذي اكتسب لقَبه «الموصليَّ» حين سافرَ إِلى المَوْصل وتعلّم الغناء بها، وَرثَ إسحقُ صَنْعَةَ الغناءِ عن أبيه، وبرعَ فيها حتى تفوَّق على أقرانِه، وذلك لأنه جمع بين المَوْهِبَةِ والدِّراسةِ، فأصبح يضاهِي علماءَ الموسيقَى الأقدمين في الشرقِ والغربِ. وأتقنَ العزفَ على العودِ وأكثر الآلاتِ الموسيقيةِ، وغنَّى حوالَيْ أربعمئةِ لَحْنٍ. وكان خبيرًا بالألحان، حضَرَ مَرةً حفلةً كبيرةً، على رأْسِها الخليفةُ المأمونُ وكان يغني فيها عشرون جارية،ٍ واستطاعَ أن يكتشفَ خطأ دقيقًا في لَحْنِهِنَّ لم يَنْتَبِهْ إِليه غيرُه من محترِفي الغناء. وقد أدهشَ ذلك الحاضرين.
كان إسحقُ كذلك عالِمًا في الفِقهْ والحديثِ وعلوم اللُّغةِ والكلامِ وراويًا للشعرِ، وشاعرًا يُغَنّي شِعْرَهُ.
وترك مؤلَّفاتٍ قيّمةً بلغتْ خمسةً وعشرين كتابًا في الشعر والأَدب والغناء والموسيقا.
ذاع اسمُه في كُلِّ أنحاءِ عَصْرِه، وقرَّبَه الخلفاءُ وكرَّموه وكافئوه، ومنهم الرشيدُ، والمأمونُ، والمعتصمُ، والواثقُ، والمتوكِّلُ.
تُوُفِّيَ إسحقُ الموصليُّ في بغدادَ سنة 235هـ، 850م) ونال من الثناءِ والتكريمِ بعدَ وفاتِه مثلَ ما لَقِيَ في حياتِه، فقال عنه الخليفةُ المتوكلُّ: «ذهبَ صدرٌ عظيمٌ من جَمَالِ المُلْكِ وبهائِه وزينتِه» وَرَثَاهُ كثيرٌ من الأُدباءِ والشعراءِ.