الدّموع القاتلة
قصّة بقلم الاديب العراقي طلال حسن،
وريشة الرّسّام عمر طلال حسن،
" 1 "
ـــــــــــــــ
تَملمَلَتْ أنثى الأخطبوط ، في مخبأها ، وسطَ شقّ بينَ الصُّخور ، فقد كان شعورُها ، باقتراب موعدِ وضعِ البيضِ ، يزدادُ ساعةً بعد ساعة .
وخرجتْ من الشَّقّ ، وقد تملَّكَها فرحٌ مشوبٌ بالقلقِ، وراحتْ تزحفُ على الصُّخور ، متمسٍّكةً بالمصَّاصاتِ الموجودةِ في القسمِ الأسفلِ من أذرعِها الثّمانية الطَّويلة.
وتركت الصُّخورَ ، متحرِّكةً في الماء ، كطائرةٍ نفَّاثة ، فهيَ تبتلعُ الماءَ ، ثمَّ تنفثُهُ بقوَّةٍ ، فتندفع بسرعة إلى الوراء .
ووقعتْ عيناها الكبيرتان على سلطعون يسير ببطءٍ وحذرٍ فوقَ رمالِ القاعِ. ورغم شُعورِها بالجوعِ أعرضَتْ عنه، ومضَتْ مبتعدة ، تبحثُ عن مكانٍ مناسبٍ، تضع فيه بيضَها .
وَتراءَى لها السَّلطعون ، الذي رأتهُ من مَخبأها ، قبلَ أيَّام، وقتها انطلقتْ نحوَهُ في الحالِ ، ونشرت فوقَهُ أذرعَها الثَّمانية كالمظلّة ، ثمَّ دفعته إلى فكَّيها القويَّين ، الشَّبيهين بمنقار الببغاء ، وأسرعت به إلى مخبأها ، حيث سحقته بأسنانها الصغيرة ، التي تغطي لسانها الخشن الكاشط .
ولاحت صخورُ ، تكادُ تختفي بين الأعشابِ البحريَّة ، فمضت تسبحُ في موازاتِها ، لعلَّها تجد مكاناً ملائماً ، تضع فيه بيضها .
ولمحت شقّاً بين تلك الصُّخور ، فتقدَّمت منه ، متأمِّلة إيَِّاه بعينيها الكبيرتين . وتوقَّفت لحظات ، نعم ، هذا مكان ملائم ، من هنا سيخرج صغارها إلى الحياة . وسرعان ما وضعت بيضها المغلف بغشاء رخويّ ، وألصقته بسطح الشقّ ، ثم استوت فوقه ، تحرسه بحذر شديد ، وشراسة أشدّ .
وبدأ ضوء النّهار ، الذي يصل شحيحاً إلى هذه المنطقة من الأعماق ، يخفت شيئاً فشيئاً ، حتى تلاشى ، وساد الظلام . وأغمضت أنثى الأخطبوط عينيها الكبيرتين ، المتعبتين ، وتراءى لها صغارها يخرجون من البيض ، كما خرجت ذات يوم ، هي وأخوتها وأخواتها ، مندفعين إلى الحياة .
" 2 "
ـــــــــــــــ
مرّت أيامُها ، في الأعماقِ ، كما يمرُّ الحلمُ. خرجتْ من البيضةِ ، وَنَجَتْ من المفترسين ، الذين تعجُّ بهم الأعماق ، نمت ، كبرت ، وتعلمت الكثير ، تعلمت كيف تقلد ما يخدم أهدافها ، فهي شجيرة عشبيّة مرّة ، ومرّة صخرة ، أو ثعبان ، أو نجم بحر ، بل وحتّى كتلة من الشّعاب المرجانيّة .
وابتسمتْ حينَ تذكّرت ، أوّلَ سمكةٍ صغيرة اصطادتْها ، نعم ، وكأن هذا حدث اليوم ، وليس قبل فترة طويلة . لقد لمحت تلك السمكة مقبلة من بعيد ، فتحولت إلى شجيرة بحرية ، وما إن مرت السمكة الصغيرة بها ، حتى عادت إخطبوطاً أمسك بالسمكة الصغيرة ، والتهمها .
وهاهي ، قبل أيّام ، تصير صخرة ، حين أقبل قريدس " روبيان " وتوقّف على مقربة منها ، وفجأة تحرّكت الصّخرة ، ومدّت أذرعها الثّمانية ، تمسك بالقريدس ، وتدفعه إلى فكّيها القويّين ولسانها المليء بالأسنان الصّغيرة .
ويبدو أنّ القريدس لم يشبعها ، فراحت تتلفّت باحثة عمّا تسكت به جوعها . وتجمّدت مرعوبة ، حين لمحت من بعيد ، سمكة قرش ضخمة ، تشقّ الماء باتّجاهها ، وأدركت بأنّها لن تستطيعَ الهرب ، فملجأها بعيد بعض الشّيء ، وسمكة القرش سريعة جداً ، وعلى الفور ، تحوّلت إلى ثعبان بحر سام ، وما إن وقعت عينا القرش عليه ، حتّى توقّف بسرعة ، فأكثر ما يخشاه هذا السّفاح، هو ثعبان البحر السّام ، وعلى الفور ، استدار بسرعة ، وشقّ الماء كالسّهم ، لائذاً بالفرار .
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
بصعوبة بالغة ، فتحت أنثى الأخطبوط عينيها الكبيرتين المنطفئتين ، لعلّها ترى حلم حياتها ، آه لم يحنِ الأوانُ بعد ، لكنّه يقترب بالتّأكيد ، وسيحلّ عاجلاً أو آجلاً .
وأدارت عينيها في ما حولها ، إنّه النّهار مرّة أخرى ، فهاهو ضياؤه ، رغم شحّته ، يغمر الصّخور والنّباتات ورمال القاع ، والكثير من الكائنات البحريّة .
وعلى الرّمال ، لمحت سلطعون يسير ببطء وحذر ، وتمنّت أن تسرع إليه ، للمرّة الأخيرة ، وتتمتّع بمذاقه الطّيب ، لكن هيهات ، لن تترك بيضها ، مهما كان السّبب .
وتطلّعت إلى بيضها ، الملتصق بسطح الشقّ ، بعينيها المتعبتين المنطفئتين ، ترى كم مضى ، منذ أن وضعتها هنا ؟ آه ، لابدّ أنه مرّ وقت طويل ، طويل جداً ، ولابدّ أيضاً ، أنّ أوان الفقس قد اقترب .
وتمايلت خائرة القوى ، وحاولت أن تتماسك ، لكن دون جدوى . وهزّت رأسها ، كلا ، لن تستسلم ، لابدّ أن ترى صغارها يخرجون من البيض ، ويندفعون إلى الحياة ، و .. والتمعت شعلة في عينيها ، كما يلتمع برق في ليلة مظلمة ، وخفق قلبها فرحاً ، فها هي، كما في الحلم ، ترى صغارَها يخرجون من البيض بالعشرات ، بل بالمئات ، ويندفعون إلى المياه ، دون أن يلتفت أحد منهم إليها.
وهنا تهاوت على الرّمال كتلة رخوة ، والدّموع تنبثق من عينيها ، وتستلّ الحياة منها شيئاً فشيئاً. وأغمضت عينيها المنطفئتين ، وقد داخلَها شيء من الارتياح ، فها هي تعود إلى أعماق البحر ، مع العشرات ، بل المئات ، من صغارها ، الذين خرجوا تواً من البيض .
الأخطبوط : حيوان رخوي ، يسكن أعماق البحار ،
ويسمّى المقلد ، حياة الأنثى بالغة القصر ،
فهي حين يفقس بيضها ، تبكي بدموع
سامة ، تفرزها من غدد في عينيها ،
فتسبب موتها .