السَّمكةُ و الفَراشَة
قصّة، بقلم فاطمة الزّهراء شربال - الجزائر
كَانت السّمكةُ الصّفراءُ الصَّغيرةُ تسكُنُ نهراً كبيراً، ذو مياهٍ عذبةٍ وصافية ، تتزينُ ضفّتاهُ بالأعشابِ المتدلّية، والأزهارِ المتألّقة ، ذاتِ الرّائحةِ الزّكيّة، فلا يخلوُ محيطهُ أبدا منَ الزّوّار .
في صباحِ أحدِ الأيّامِ، بينما كانت تلعبُ و تقفزُ هنا و هناكْ، تغوصُ تارةً و تظهرُ تارةً أخرى، إذْ بها تسمعُ صوتاً رقيقاً يُحدِّثها : ما أجملكِ أيَّتها السَّمكةُ الظَّريفةُ ، بريقكِ و حركاتكِ يغْمُرانِ المكانَ بالنّشاطِ و الحيويّة ، فشعرتْ بالكثيرِ منَ الإطراءِ ،وأطَلَّتْ برأسِهاَ منَ المياهِ المتحرِّكَةِ ،تبحثُ عنْ مصدرِ الصّوتِ، عنْدما جذبها جمالُ فراشةٍ جميلةٍ تقفُ على إِحدى الأزهارِ ، تفرضُ جَناحيْها المُلوَّنتينِ ،فابتسمتْ و ردَّتْ بنفْسِ الكلامِ :أنتِ أيضاً جميلةٌ جداً أيَّتها الفراشة ، وألوانكِ تَبْهَرُ النَّظر، كمْ أنا سعيدةٌ برؤْيتك .
و كانتْ هاتانِ الجُمْلتينِ بدايةً لصداقَتِهما ، و ظلَّتا تلعبانِ معاً لبعض الوقت ، فكانتْ السَّمكةُ تظْهرُ و تخْتفي ، تغوصُ ثمَّ تخرجُ و هيَ تصنعُ فقّاعاتٍ كبيرةً و صغيرةً ،و تنثرُ بعضَ قطراتِ الماءِ بذيْلها على الهواءِ، فتبلِّلُ الفَراشةَ الّتي كانَتْ تُحلِّقُ وتحُومُ حوْلها ، فَتفِرُّ أعْلى و أعْلى ،تنْفُضُ جِسْمَها ،و هيَ تتراقصُ بحركاتٍ رشيقةٍ، و تضْحكانِ معاً و تمرحانِ ، إلى أنْ لمحتْ السَّمكةُ حشرةً صغيرةً جداً تطْفو فوْق الماء ، فَهَمَّتْ بالْتقاطِها ، لكنَّ حركةَ المياهِ سحبْتها بعيداً ، فقرَّرتْ أنْ تلْحَقَ بها تاركةً رفِيقَتها بمُفردِها .
وعنْدها ،استوْقفتْها الفراشةُ قائلةً : لا ترْحلي يا صَديقَتي ، إبْقَيْ معي مزيداً منَ الوقتِ .
فردَّتْ السَّمكةُ : لا يُمكنُني البقاء يا أجْمل صديقَة ، يجبُ أنْ أصْطادَ غِذائي ، لكنْ، أعِدُكِ أنَّني سَأعودُ لِنلعبَ معاً منْ جديدٍ في نفْسِ المَكان ، فهلْ تعِدينَني أنَّك سَتكونينَ هُنا ؟
هزَّتْ الفراشةُ رأْسَها قائِلةً : نعمْ، أعدُكِ وسأنتظرُ عودتكِ بفارغِ الصّبر .
غادرتْ السَّمكةُ المكانَ و غابتْ عن الأنظار، و ظلَّتْ الفراشةُ تنْتظِرُها .
و في اليومِ التَّالي تذكّرتْ السّمكة وعْدَها لصَديقَتِها ،فعادتْ إلى المَكانِ نفسهِ مشتاقة لرُؤْيتها ، و ظلَّتْ تنْتظِرُ ظُهورَها طَويلاً ،لكنَّها لمْ تَظْهرْ ، فعادتْ أدْراجها حزينةً ، رغمَ أنَّها لمْ تيْأسْ ، و عادتْ في اليومِ الثَّاني على أملِ أنْ َتجِدهاَ هذهِ المرَّة .......و لمْ تجِدْها كذلِك. و رجعتْ منْ حيثُ أتتْ خائبةً ، تشْعرُ بالإحْباط .
و في اليومِ الثالثِ قرَّرتْ أنْ تمْنحَها آخرَ فُرصةٍ ، فاتَّجهتْ إلى مكانِ الميعَاد و قَضتْ اليوْمَ بأكْملهِ تترقَّبُ حُضورها دونَ جَدوَى ،إلى أنْ بدأتِ الشَّمسُ تغيبُ خلْفَ الجبال ، فتملَّكَها الغضبُ ، و لمْ تُطِقْ صبراً ،فَراحتْ تُحدِّثُ نفْسَها، و تصيحُ وتصْرخُ بأعْلى صوتِها : أيْنَ أنتِ أيَّتها المخادِعة ؟ لماذا لمْ تعُودي ؟ لقدْ كذِبتِ علَي ، لقدْ انْتظرْتُكِ طويلاً ، لكنَّك ذهبتِ و نسَيْتني ، أيتَّها الكاذِبة لقدْ وعَدتِني و لمْ تفِ بوعدكِ لي .......
و إذْ هيِ على تلْكَ الحالِ ، أزْعجَ صوتُها سُلحفاةً كانتْ تنامُ داخلَ بيتها متخفِّيةً بينِ الأعْشابِ ، فأخرجتْ رأسَها و أطْرافَها و تقدَّمتْ نحْوهَا ببطءٍ ،و هيَ تسْألها عنْ سببِ الفوْضى و الصّراخ : ما بكِ أيَّتها السَّمكةُ المُزْعجة ؟ لِماذا تصيحينَ هَكذا ؟ لَقَدْ أيْقظْتِني مِنْ نَوْمي .فردَّتْ السَّمكةُ علْيها بِأسَفٍ و حُزنٍ : أنا آسِفةٌ سيِّدة سُلحفاةْ ، لكنَّني حَزينةٌ جداً ، فقدْ خدَعتْني صَديقَتي الفَراشَة .لقدْ أحبْبتُها كثِيراً وصَدَّقْتُها ، وعدَتْني بأنَّهَا ستعُودُ لِنلْعبَ معاً ، لكنَّها ترَكتْني و نسِيَتْني.
و عنْدَها ضحِكتِ السُّلحفاةُ عالِياً ، فسألْتها السَّمكةُ مُسْتغربَةً : ما المُضحِكُ في الأمْر ؟
و ردَّتْ السُّلحفاة : يا صَغيرَتي ، لا تتسرَّعي أبداً في الحُكْمِ على أحدٍ منْ غير ِعلمٍ ، فلربَّما تَظْلمينَ صدِيقتَكِ بحُكمِكِ عليْها.
صاحتْ السَّمكةُ مُتسائلةً : أظْلِمُها ؟ لقَدْ انتظرْتُها ثَلاثةَ أيامٍ بأِكملِها و لمْ تأْتِ ، إلتزمْتُ بوعْدي لهَا ،و هيَ التي أخْلفتْ وعْدَها لي، فَفِيمَ ظلمتُها إذاً ؟.
فَأجابتْها السُّلحفاةُ : يا بُنيَّتي ،حياةُ الفرَاشاتِ قَصِيرةٌ حدّاً، بعضُها تعيشُ أسْبوعاً أو أسْبوعين، و بعضُها لا تعِيشُ أكثرَ منْ يوْمٍ واحدٍ فقطْ ، و ربَّما لمْ تتمكَّنْ منَ العوْدةِ في اليومِ الثَّاني ، إذاَ كانتْ حياتُها قدْ انتهتْ قبْله .
و حينهَا صُدِمتْ السَّمكةُ بِما عَلِمَتهُ لتوِّها و حَزنتْ على رفِيقَتِها و تمنَّتْ لوْ أنَّها لمْ تُفارقْها أبداً في ذلِكَ اليوْم ، ورفعتْ رأسَها تنظُرُ إلى السُّلحفاةِ تسْألُها : هلْ تعْتقِدينَ أنَّها انْتظرَتْني ؟
فَقالتْ السُّلحفاةُ : نَعمْ ، أعتقدُ أنَّها انْتظرَتْكِ ، لكنَّكِ لمْ تأتِ في الوقْتِ المُناسِب .فالتَمِسي لصدِيقَتِكِ ألْفَ عُذرٍ .
و بَكتْ السَّمكةُ الحَزينةُ ندَماً على أنَّها ظَلمتْ صديقَتَها و ظنَّتْ بِها سُوءاً ،لكِنَّ السُّلحفاةَ ربَّتتْ عَلى رأسِها تُّطمْئِنُها و تُواسِيها : لا تحْزَني أيَّتها السَّمكةُ الوفيَّةُ ، فصَديقتُكِ الفَراشةُ لمْ تَحْزَنْ ،و رغْمَ قِصَرِ مُدَّةِ حَياتِها ، إلاَّ أنَّهَا أتْقنَتْ اسْتِغْلالَها بشَكْلٍ جيِّدٍ و مُفِيد ، و أدَّتْ وظِيفَتها التي خُلِقتْ منْ أجْلِها عَلى أكْملِ وجْه ، فهِي تطِيرُ في الهَواءِ فرَحاً و مرَحاً ، تُمتِّعُ الأنْظارَ بجَمالِها و تُزيِّنُ الحدائِقَ و المُرُوج ، و تُلقِّحُ الأزْهارَ ، فانْطلِقي أنْتِ أيْضاً إِلى مُهمَّتِك ، و تذكَّريها دائماً .
و حِينَها انْطلقتْ السَّمكةُ الصَّغيرةُ الصَّفْراءُ سَعيدَةٍ ، تقُومُ بِوظِيفَتِها في الحَياةِ، دُونَ أنْ تنْسَى الفَراشَةَ الجَمِيلةَ ، و لا الدَّرسَ الذي تعلَّمَتْه .