أبرقتِ السَّماءُ وَأرْعَدَتْ دِلْ...دِلْللللْللْ...هطلتِ الأمطارُ غزيرةً على الغابةِ المطيرةِ، وتراقصتْ غُصونُ الأشجارِ مع سياطِ الماءِ المنهمرِ على الأوراقِ يغسلها. وَقَدْ حجبَ صوتُ الرَّعْدِ كلَّ أصواتِ الكائناتِ.
عندَما هدأتْ مِنْحَةُ السَّماءِ للأرض، أصبحتِ المياهُ تجري فى أرضِ الغابة . باتتْ عشيرةُ العلجومِ الطّيني تُلملِمُ شملَها للنُّزوحِ لموطنِها الأصليِّ للتَّزواجِ، فقد حَلَّ موسمُ التَّكاثر. أصدَرَتْ ذكورُ العلاجِم أصواتَها مناديةً بالرَّحيلِ، تَجَمَّعَتْ وَسارَتْ نحوَ موطنِها فى الغابةِ المجاورةِ قربَ البحيرة. إرتفعَ صوتُ النَّقيقِ الذى يَشُقُّ صمتَ الغابة: غاغ..غاغ...غاغ. كلُّ الذُّكورِ مُنتشيةٌ تنتظرُ قدومَ الإناثِ.
كانَ أبو ذنيبة العلجومُ فى موخَّرَةِ الرَّكبِ النَّازح للموطنِ، لم يصدرْ صوتًا لأنَّه فقدَ صوتَ النِّداءِ لِكثرَةِ تنكُّرِهِ لابناء عشيرتِهِ. ولمْ يدرِّبْ صوتَهُ إلا محاكيًا الكائناتِ الأخرى، لأنَّه يمنّي نفسَهُ بالتَّزاوجِ معَ الأنواع الأخرى من الكائناتِ ذاتِ الألوان. يستخدمُ الفحيحَ كالثَّعابين ، والصَّفير كالحشراتِ. ويحاولُ الزَّئيرَ كالأسدِ. جَرَّبَ كلَّ أنواعِ الأصواتِ إلأ النّقيق.
لذلكَ لم تنتفِخْ أكياسُ صوتِهِ كالبالوناتِ فتخرجُ الأصواتُ مثلَ بقيَّةِ ذكورِالعلاجم، لأنَّها فقدت خاصيّتها الطَّبيعية من عدم التّطوّر والإستخدامِ، فأصبح أبو ذنيبة العلجوم، بلا صوت، حاوَلَ التهرُّبَ من هجرةِ التزاوج ولكنَّ العلجومَ الطيني، قائد الهجرةِ منعَهُ من البقاءِ فى الغابةِ المطيرة وحدَهُ. وهو لا يدرى أنَّ أبو ذنيبة العلجوم لا يملكُ صوتَ نداءِ التّزاوج.
إستقرَّتْ مجموعةُ الذّكورِ قربَ أيكة الماءِ الصّافي الشّفاف المتدفِّق، المزيّن بوريقاتِ الأشجارِ المتساقطةِ الخضراء .
هَرَعَتِ الإناثُ نحو الأيكة. . حاوَلَ أبو ذنيبة العلجوم أن يصدرَ صوتًا فلم تسعفْهُ مقدرتُهُ الصَّوتيَّة المعطَّلة، خرج صوتُهُ ضعيفًا..نيق..نيييق.. نَظَرَ حولَهُ وَوَجَدَ الجميعَ سعداءَ بهذا اللقاء فى الموطن. لم تتقدَّم نحوَهُ أيّ علجومة أنثى للتَّزواج، فوجدَ نفسَهُ معزولا، هو لا يرضى بِالإنكسارِ والهزيمةِ أمامَ عشيرتِهِ. فكَّرَ مليّا ثمَّ قرَّرَ:
لماذا لا يلفتُ النَّظَرَ بعضلاتِهِ الفتيَّة.
وقفَ على قدميهِ الخلفيَّتين وَهَجَمَ على جموعِ العلاجيمِ الذّكور وأوسعهم رفسًا ولطشًا.. طاخ ...طررراخ... وتفرَّغ الجمع. وهربتِ الإناثُ مختبئةً خلفَ الشُّجيراتِ تراقبُ المعركةَ التي ظهرَ فيها أبو ذنيبة بطلا يقفزُ الى أعلى، ويقع كيفَما اتّفق.
غايتُهُ إيقافُ التّزواج، أصدرتِ الذُّكورُ العلاجمُ أصواتا عالية ،وهجم العلجوم الطِّيني القائدُ وأمسكَ بأبي ذنيبة من رجليهِ الخلفيتينِ، ورفعهُ عاليًا وقذفَهُ بعيدًا، فسقطَ متعبًا جاحظَ العينينِ لم يقوَ على النُّهوض. وبدأت الإناثُ فى عمليَّاتِ التَّزاوجِ وأصواتِ العلاجم عمَّتِ الغابة. وزحفتِ الإناثُ تحملُ الذُّكورَ على ظهورِها ونزلتْ داخلَ أيكةِ الماءِ لوضعِ بيضِها وتخصيبِهِ وحراستِهِ حتى يفقسَ الجيلُ الجديدُ.
كانَ أبو ذنيبة يبكي بكاءً حزينا..هى.هى..هئ..هئ. وتنهمرُ دموعُهُ. لقد ضَلَّ طريقَهُ وفقدَ بهجَةَ الحياة.
جاء العلجومُ الطيني القائدُ، ووقفَ أمامه قائلا بحزمٍ: سوفَ لنْ تأتيَ معنا هنا مرَّة أخرى.إذهب وابحث لكَ عن موطنٍ تعيشُ فيه بلا ذرّيّة .وستكونُ وحيدًا أبدَ الدَّهر، لأنّك تتحدَّى الطَّبيعة، وأضعتَ صوتَكَ، وأصبحتَ حاقدًا لا تصلحُ للعيشِ بينَنا.أردتَ أن تنهيَ موسم تزواج العلجوم الطيني .أتريد لعشيرتِنا أن تنقرضَ؟
وَرَفَسَهُ بقدمِهِ...طش ..طش....كع.
وأطاحَ بهِ بعيدًا مرَّة أخرى، فنهَضَ متثاقلا ومضى بعيدًا يحاولُ أنْ يعالجَ صوتَهُ، فقد كانت خسارتُهُ كبيرةً حطَّمَتْ غرورَهُ.
ولكنَّ صوتَهُ خرجَ هزيلا متقطِّعا غيغ... غيغ..غي.أيقنَ أنَّهُ سيكونُ وحيدًا.
وقد طُرِدَ من عشيرةِ العلجوم الطّينى، كفكَفَ ولملمَ دموعَ النَّدم . وَمَشى ...مَشَى سائرًا على غيرِ هدى...بعيدًا فى الغابةِ المطيرةِ خائفًا بعدَ أن هجرتْهُ العشيرةُ لسوءِ طباعِهِ.