حبيبٌ عادَ إلى حبيبتِهِ بعدَ غيابٍ طالَ، فكيفَ يكونُ العناق؟
حبيبةٌ ما زالَ الدّمع يرقصُ في عينيها، بل الماءَ في عينِها ونبعِها،
والله يُعينُ الحبيبة وهي تحضُنُ حبيبَها!
السّجرة قرية فلسطينيّة هُجّر أهلُها عام 1948 ومن بينهم الحبيب الغالي شاعرنا الفلسطيني أبو عرب!
نعمَ الحبيب ونعم الحبيبة!
كلاهما يزدانُ بالكحلِ الفلسطيني.
السّجرة قريةٌ عبقت بالورد وفاحت بالفيجن ولاحت بتوتة الدّار! ومن أبنائها الأبرار أيضا صديق الشَّاعر أبو عرب، فنّان الكاريكاتير الفلسطيني الشّهيد ناجي العلي.
السّجرة ما زالت تحِنّ إلى الشّاعر وإلى الرسّام وكلّ من قاسمها أنفاسها ونسائمها وحاراتها وساحاتها وشرب من عينها ماء زلال!
في عينِها اليمنى استوطنَ الرسّام وفي اليسرى حلّق الشّاعر!
بعد 64 عاما من الحرمان والتّهجير عاد في نيسان 2012 الفنّان الفلسطيني، الشيخ إبراهيم محمد صالح، (أبو عرب)، إلى قريته المهجّرة،
السَّجرة،
قضاء طبريا،
وتجوَل بينها مثقلا بالذّكريات والدّموع والآهات ومشاعر الأمل والألم، لكنّه لم يتوقّف عن الغناء للحبيبّة التي تتعطّر بذكرياتها مع أهلها منذ 64 عاما!
الشّاعر أبو عرب هو والد شهيدٍ وابنُ شهيدٍ
وقد تسنّى للشّاعر أن يزورَ قبر أبيه في كفركنّا!
قبلَ أن يزورَ السّجرة بعشرة أيّام حلم الشّاعر الولهان بلقاءِ حبيبته الحلوة الحزينة
والدّمع في عينيها!
وعندما زارها تحقّق حلمه الصّغير والتقى حبيبته السّجرة وارتشفَ الماء في عينِها
بلِ الدّمعَ من عينيها!
ورغم شيخوخته واعتلال صحّته تجوَّل أبو عرب معتمرا كوفيته ، مشيا على الأقدام، في ديرته التي عاهدها بكثير من قصائده المغنَّاة بعدم النسيان مهما طال الزّمان، وهو يناجيها شعرًا ومواويل
وكأنًه لقاء حبيب بمحبوبته بعد غياب طال.
ما زالت ذاكرته تخزن صورَ مواقع المسجد، والمدرسة، والكنيسة والعين والمعاصر الثلاث، قبل أن يتَّجه نحو موقع بيتِهِ وهو أيضا قد سُوِّي بالأرض، وأحاطتْ بِهِ الأشواك!
وقادَ أبو عرب رفاقه وهو يترجّل في السّجرة ، وتوقَّف القلب عن الخفقان لثوانٍ عند شجرة التّوت، التي غنّى لها في قصيدته الشّعبيّة " يا توتة الدار صبرك على الزَّمان
إن جار لا بد نعود مهما طوّل المشوار".
وبكى الرّجل وما أمرّ دَمعَ الرّجال فالمشاعر من نار تفيض على الخدّينِ!
ولكنّ توتة الدّار لبّتِ النّداءَ فَمنحته ظلّها ليستظلّ ويستريح!
فراح يتلمّس أغصانها وورق توتِها ونسائمَ صباحها!
وبكى!
وزقزقة عصافير التوتة كي تهدّئ من حزنه وتوقّف نزيفَ دموعه!
وغرّدت بلابل السّجرة كي يتنفّسَ الصّعداء ويسأل عن أخبار العصافير!
وبكى!
وكأنّ للسّجرة عينُ ماء تطفح ولابنِها عينٌ من الدّّمع تلفح!
وبكى!
لم يقوَ الشّاعرُ على فهمِ حبكة القصّة !
وبكى!
ونادتْهُ الأعشاب والأحجار والأشواك في السّجرة كي تسلّيه وتؤنسه
وتعلمه أنّ السّجرة هي نبع الحياة !
وابتسمَ وبكى!
تعذّبت روح الشّاعر وتنهّدت روح السّجرة!
شيخٌ شاعرٌ يبوح لقريته حبّه الأبديّ فكيف لا تفهم العصافير سمفونيّة الحبّ يا ترى!
وبكى الشّاعر أبو عرب ونعم الباكي ونعم الدّمع القاصدُ السّجرة!
وردا على سؤال آخر، تابع الشّاعر أبو عرب:
"حينما كنا نسافر سوية أنا والرّسّام ناجي العلي ، صديقي ورفيقي ، ونبيت في غرفة واحدة كنّا نقضي الليل باستحضار ذكريات الصّبا، ونستعيد سيمفونية الأجراس الرّنّانة المثبتة في أعناق الماعز وهي عائدة عند المساء من رعاية، فيما (كان) الرعاة بدورهم يملؤون الفضاء بألحان النّاي !
وهل أدركتم يا أحبّائي علامَ صار أبو عرب شاعر الشّعراء ومغرّد الأووووووف ومنشد الوطن!
من السجرة عادَ والد الشّهيد وابن الشّهيد، أبو عرب، إلى كفركنا، وفي منزل ابنها البار واصل طه التقى بالعشرات من أقاربه ومحبيه وسوية معهم ومع الفنانة سلام أبو آمنة، أنشدوا قصائد : "هدّي يا بحر هدي.. طولنا في غيبتنا" !
وودّعَ أبو عرب حبيبتَه على أملِ اللقاء ورحمة السّماء
فابتسمَ وأطلقَ ابتسامته للسّجرة وأسر الدّموع في مقلتيهِ وفؤاده !