اليوم، وبعد هذه السّنين التي عشتُها، وبعد التّجارب التي خضتُها، وبعد هذا الكمّ الغزير من المعلومات والمعارف التي اطّلعتُ عليها، صرتُ أقلّ انفعالا، وأكثر ميلا للتروّي ولتحكيم العقل، واكتسبتُ مرونة في تصرّفاتي وفي أحكامي!
لكنّ الأمرَ لم يكن كذلك عندما كنتُ طفلا صغيرًا، أو عندما كنتُ فتى يافعًا!
كنتُ آنذاك عاطفيًًّا سريعَ الإنفعال، أُصدِرُ الأحكامَ القاطعة بعفويّة دون تأنٍّ أو رويّة!
أذكر موقفًا لا أنساهُ مررتُ به وأنا في الصفّ الخامس الابتدائيّ.
كان يومًا من أيّام الرّبيع المشمسة، وبالتّحديد بعد ساعات الظّهيرة، حيث تجمّعتْ نساء الحارة في ساحةِ بيتِ أحدِ الجيران، وقد افترشنَ الحصرَ وجلسنَ على "الطراريح" أو البُسط ورحنَ يتجاذبنَ أطرافَ الحديثِ بمتعةٍ وسرور.
أمّا نحن الصّغار فانهمكنا في القفزِ والجريِ واللّعبِ في الأزّقةِ والطّرقات، وأحيانًا كنّا نركض فرحينَ خلف بعضِ الفراشات المزركشةِ الجميلة، أو نهربُ مذعورين من دبابيرَ شرسةٍ!
وحدثَ أثناءَ ركضي أنْ "عرقلني" - متعمّدًا - زميلٌ من أبناء الحارة، فوقعتُ على الأرض، وأصابتني بعضُ الرُّضوض والخدوش، فلم أتمالك نفسي فصرختُ بأعلى صوتي ذامًُا ذلك الزَّميل ، ومعلنًا كراهيّتي الفائقة له ولسلوكِهِ العدوانيّ!
ولما كنّا على مقربة من نساء الحارة المجتمعات، فقد سمعنَ صراخي وكلامي، وشاءتِ الصُّدفُ أن تكونَ والدة "الجاني" بينَ النّساء المتجمهرات، فغضبتْ منّي، وأخذت تدافعُ عن ابنِها وتمجّدُ أخلاقَه الحميدة وتستنكر أقوالي عنه!
نهضت إحدى الجارات، وتقدّمت منّي تواسيني وتلطّف من ألمي وهياجي، وانتحت بي جانبًا وقالت لي: إسمعْ منّي هذه النصيحة واعمل بموجبها:
"حبّ وداري، وابغض وواري"!
وراحتِ الجارة تشرحُ لي حكمة ذلك المثل وجدواهُ في حياتنا، إذْ يجدر بنَا إذا أحببنا أن نعلنَ حبّنا ونجهر به ليعرفَ المحبوب ذلك، وإذا كرهنا علينا أن نُخفيَ ذلك الكُرْهَ عن الشّخص المكروه!
يومَها، صدمني هذا المثلُ في فحواهُ ومغزاهُ!
كان يمكنُ أن أقبلَ الجملة الأولى من المثل - إظهار الحبّ للمحبوب، ولكنّي أرفض الجملة الثّانية التي تحثّ على الرّياء وعدم إظهار مشاعرنا الصّادقة!
بعد هذه الحادثة، بدأتْ نفسي الغضّة تتألّم، بل تثور، من سماع بعض الأمثال الشعبيّة التي لها معاني سلبيّة وتسهم في ترسيخِ قيمٍ وعادات مرفوضة يجب استئصالُها وإلغاؤها!
من بين تلك الأمثال الشعبيّة الشائعة التي لها إيحاء سيء أذكر:
- الكذب مِلح الرجال.
- اللي بوخذ أمّي هو عمّي!
- حط راسك بين الرّوس وقول يا قطّاع الروس
- بوس الكلب من ثمّو تا توخذ حاجتك منّو.
فكيف نردّد مثل هذه الأمثال التي تحثّ على الكذب واستحسانه، أو التي تدعو للخنوع والذلّ والاستسلام، أو التي تُبيح كلّ الوسائل للوصول إلى الغايات فتدعو للّجوء إلى الخداع والنّفاق!