كان الثَّرثارونَ منتعشينَ بِهذِهِ الحرارةِ الصَّباحيّةِ اللّطيفة، وكانوا يتخاصمون بِفرحٍ وَبَشاشةٍ لسببٍ مُبهَمٍ لا يعرفه أحدٌ غيرهم، كما كانت الدّجاجاتُ تسعى لِرِزْقِها في المجالِ الذي يسمّونَه "المرجة" (الأرض الخضراء)، هكذا لبضعة أشهر حاليّا.
لم تكُنْ إلاّ مساحةً رحبةً متنافرةً، تشكِّلُ باقةً جافّةً مصغّرةً وترابًا رخاميّا متّسخًا، سمعَ من التّلّة المجاورةِ نهيقَ أحمرة الأبِ برنارديني، وَكانَ ينتظرُ بقارغِ صبرٍ معلِّمَهُ، فكان بلا شكٍّ جائعًا.
لم يتمّهلِ الطِّفلُ أبدا، فلبس بخفَّة ثيابا و......للكبار، كانت رياح الحريّة تدفعُهُ إلى الخارجِ، أمَّا واجبات العطلة فإنَّها تنتظرُ، فَمِنَ الواجبِ استغلالُ الأيَّامِ الأخيرةِ منَ الرَّاحةِ قَبلَ العودةِ.
إنْسَلَّ خارجًا بِصَمْتٍ واتّجَهَ نَحوَ شَجَرةِ التّين كيْ يَجْمَعَ بعضَ التِّين المُعسَّلِ عوضا عن الفطور قبل الهروب إلى الطَّريق.
في آخر مرّة، كانَ الحاجزُ الذي صنعتْهُ الأشجارُ الكثيفةُ لا يسمحُ لأحدٍ برؤية المنزلِ ويجعلُ من الانتظارِ طويلا إلى أسوء حدٍّ، وَلن تكونَ هذِهِ - أي الرّؤيَة- قبل ساعتين أو ثلاث، إنَّها مدّة طويلة.
أخذَ طريقَ حقلِ الكرومِ، كانت العناقيدُ السّوداءُ متدلّيةً تنتظرُ القَطْفَ، إختطَفَ واحدةً في طريقِهِ، كانتِ الحبّات المشبعة من الشّمس قد عصرت بالقرب من المبنى.
نضجَ العنبُ حسبَ الرّغبةِ، إنَّه لذيذٌ!!
بهذه الطَّريقة كانَ يحبُّ الأكلَ وليسَ على الطّاولة حبيس كرسيِّه..
إبتعَدَ عن البركةِ التي أصبحتْ موحلةً بسببِ المطرِ الأخيرِ، ولاحَظَ الآثارَ الجديدةَ التي تركتْها خنازيرٌ كانت تتسكّعُ هنا قبلَ قليلٍ، إنّه مكانها المفضّل وسط أشجار السّنديانِ الأصفر والقُمامَة، كانت تحكّ الأشجارَ ثمَّ تعود لتركِ الآثارِ في أجزائِها الخارجيَّة.
تابَعَ السّيرَ في الطّريقِ المؤدي إلى المنزلِ القديمِ المهجورِ، لقد كانَ في انتظارِهِ، ثابتا وقد كان لديه مشروع اشترائه وإعادة بنائه عندَما يصبحُ كبيرًا، كَما كان يحبُّ معرفةَ تاريخِهِ، وَيَعرفُ مَن عاشَ فيهِ من قبل، ولماذا أهملَهُ مالكوهُ هكذا، كَيفَ أمكَنَ لهم نسيانه؟ إنه جميل، رغم أنّ جوانبه اليوم مشقوقة، إنّه يساعد على الحياةِ الجيِّدةِ للأعشابِ البريّةِ المفيدةِ كأدوية.
دارَ حولَه، نظرَ إليهِ من الدّاخلِ عبرَ نافذةٍ مكسورةٍ، تكوَّن لديهِ إحساسٌ بأنّه لم يكنْ وحيدًا، وبأنّهُ مراقَبٌ بِدقّة.
سمعَ حركةً خاطفةً، وتحرّكتِ الأعشابُ بخفّةٍ، وإنْ كان ثعبانا؟ يفترض أنّه سيرى عائلات كاملة هنا !! لم يكن يحبّ هذه الحيوانات الزّاحفة والماكرة.
أظهرَ الطّفلُ التَّراجعَ إلى الوراءِ، بعدَ فواتِ الأوان !! كانَ أمامَ مثالٍ رائع للكابوسِ، زَوجٌ من العيون الملوَّنةِ تحدق النّظرَ فيهِ، كان الحيوان بِلا حراكٍ، وَأخَذَ يراقب حركات الطّفل، أيّهما هو العدو؟ شَعَرَ الصّبيّ بقشعريرةٍ تسري فيهِ من الذّعرِ، لكنّه لم يتحرّكْ أبدًا، كانَ جسمُهُ كلُّه في حالةِ تأهُّبٍ.
بدأ الثُّعبان أوّلا، فتحدّثَ بصوتٍ واضحٍ ومتّزِنٍ:
- لا تلمسْني بسوءٍ، فَأنا لنْ ألسعَكَ، أنا حَيوانٌ مسالمٌ، أحِبُّ هذا المكانَ، وَجئتُ مِنْ أجلِ التّدفئة تَحتَ هذِهِ الأحجارِ القديمةِ، اليومَ هنا، لَم يزعجْني أحدٌ سواكَ، ماذا تفعل؟ ألا يجب أن يكونَ لك بيت؟
أخَذَ الطِّفلُ يشعُرُ بالاطمئنانِ وَهو يَسمعُ الثّعبانَ يتحدَّثُ بهدوءٍ، لم تَبْدُ عليهِ طبيعةٌ عدوانيَّةٌ، وَرَغمَ ذلكَ لم يعطِهِ ثقته حتّى الآن.
- أنا أيضا أحبُّ هذا المنزِلَ، سيصبحُ لي عندَما أكبر، وسأسكنُ فيه.
- في الوقتِ الحاضرِ هو منزلي، رَدَّ عليهِ الحيوانُ منعدم القوائم.
لَمَعَتْ عيناهُ وَاتَّسعتْ حدقتاهما عن آخرهما، وانفتَحَ جفناهُما باتّساعٍ، فَخافَ الطّفل كثيرًا، وَرَغِبَ في العودةِ من حيثُ أتى.
- لا تذهبْ بعيدًا، قلتُ لكَ أنِّي لن ألسعَكَ إلاّ إذا كنتَ خائفا على حياتي، لماذا تريدُ هذا المنزلَ؟ وهذِهِ الكومة من الرّكام؟ لماذا تريدُ أنْ تعيشَ فيه؟
- لا أعرفُ، ولكن يمكنُ أنْ أقولَ أنّهُ هو الذي اخْتارَني، إنه غريبٌ، أنا آتي إليهِ في الكثيرِ من الأحيان ولم ألتقِ بكَ أبدا.
- أمرٌ عاديٌّ، أنا خجولٌ، أجابَ الثّعبانُ. ثمَّ أضافَ:
- إتْبعنِي، وَرُبّما تجدُ الأجوبةَ عن أسئلتِكَ، وربّما نتعلّم ما هو غَريبٌ هنا.
دَخلا معا عَبرَ البابِ الذي لم يفتحْ إلاّ نادرًا، إنّه إذن حَدثٌ استثنائي، وبالكادِ عبرَا العَتَبةَََ التي تغيِّر كلّ شيء، حتَّى وَجدَا المنزل - بطريقة سحريَّة- قد عادَ إليهِ شبابُهُ من جديد مثلما كانَ في السّابق.
كانت الشّمسُ تغمرُ قاعَةَ الطّعامِ، والسّتائر الحريريّة الجميلة تخفق على النّوافذ، قطعةٌ منَ القماشِ ناصعةٌ وُضِعَتْ على الطّاولةِ الكبيرة.
في الأسفلِ موقدٌ كبيرٌ يحتلُّ جزءًا جيّدًا من المكانِ، وَفَخْذُ خروفٍ ونقانق تنتظرُ أن توضَعَ في الجَمرِ.
قريبًا من النّافذة شاهدا امرأة شابّة تلبس قبّعة ومئزرا أزرقين تغنّي، كانت تحتضن رضيعا يضحك، ولا يظهر أنّها لاحظت وجودَهما، أدركا أنهما عندما اجتازا عتبة الباب قد دخلا كونا آخر، وأنهما أصبحا غير مرئيَّين.
ثم دخلت طفلة صغيرة تجري ولفّت الأم والطّفل بالقبلات، كانت أصواتُهم بِالكادِ مسموعَةٍ، فقد كانت بعيدَة، ويجبُ الاعتماد على حركة الشّفاه لفهم ما تقوله الصّغيرة:
- " أحبّكما كثيرًا، أنت وأخي الصَّغير".
ثمَّ احتجبت الرّؤية.
إخْتَفى العالمَ السّعيدَ، القاعة الكبيرة معتمة الآن، وعجوز وحيدة تقوم بالحياكَة قريبًا من الموقِدِ المسود، كان المزيد من فخذِ الخروفِ والنَّقانق المجمّرَة، كانتِ المرأة تتحدَّث مع نفسِها:
- " من سيعتني الآنَ بمنزِلي الحبيب وأنا في هذا العمر، أريد أن يبقى مستمِّرًا في الحياة بعدي، زوجي هو الذي بناهُ دون مساعدَة أيّ شخص، فعل ذلك لأنّه يحبّنا، ابني توفّي وابنتي ذهبت إلى المدينة.
" أطلب هذه الأمنيَة: أريدُ من كلِّ هذا الحبّ ألاّ يضيع أبدًا، أرجو أن يأتيَ رجل شجاع يعتني في المستقبل بمكاننا هذا ويعتزُّ به مثلي أنا.
ثم احتجبت الرّؤية كذلك.
وَوَجََدَ الكفل والثّعبان نفسيْهما فجأةً خارجًا، وشاهدا المسكِنَ المتداعي كما يعرفانه دائمًا، مهجورًا ومهدّمًا.
تحدَّثَ الثُّعبانُ أولاّ، يبدو أنّه كان يفكّر بصوتٍ عال:
- رأيت، كنت على حقٍّ، هذا المنزل ينتظرك، أنتَ الرَّجلُ الشُّجاعُ الذي سيعيدُ بناءَهُ، وفقًا لرغبةِ العجوزِ، لكنْ في الوقتِ نفسِهِ- أضافَ الثُّعبانُ كلامًا سيِّئًا- لستَ إلاّ صغيرًا، لا تستطيعُ فعلَ شيءٍ هنا، لست في سنّ الاستقرار فيه، إنّه يخصُّني.
عندَ هذِهِ الكلمةِ، توارى الثُّعبان بينَ الأحجارِ، دونَ صَوتٍ، وَحتّى بدونٍ توديعٍ.
أخَذَ الصَّبِيُّ طريقَ العودةِ، إنَّهُ وَقْتُ القيام بِالواجباتِ، يَجبُ أن يَعْمَلَ كثيرًا من أجلِ الحصولِ علَى ما يكفي منَ المالِ في المستقبل كي يبدأ في العناية بمنزله.
كانتِ الشَّمسُ عاليةً في السَّماء، بالتَّأكيدِ كانتِ الثانيَةَ عشرَ ظهرًا.