حَلوَى جدَّتي مَرْيَم للكاتبة هديل ناشف
أحبُّ جدَّتي مريم .
وأحبُّها أكثر عندما أزورُها في بيتِها وحدِي ، دونَ مرافقةِ أمِّي أو أبِي أو إخوتي .
أحبُّ رائحةَ المخبوزاتِ في مَطْبخِها .
ورائحةَ الكعكِ المحشُوِّ بالتَّمر ، تصنعُهُ بنفسِها .
عندما نكونُ وحدَنا ، تصبحُ جدَّتي مُلْكي وحدِي .
تداعبُ شَعْري
تحضُنُني بِرفقٍ ، فيمتلئُ أنفي برائحتِها الطيِّبة .
نجلسُ ونتحدَّثُ .
تسألُني عن مَدْرَسَتِي وأصْدقائي
وَعَنْ قِطَّتي وَألعابي
ثمَُّ تدعو اللهَ بصوتٍ مسموعٍ
أن يرعاني .
صوتُ جدَّتي حنونٌ ، يُشْعِرُني بِالأمان .
جدَّتي لا تحبُّ الضَّجيج
رغمَ أنَّها لا تسمعُ جيِّدا .
وهيَ هادئةُ الطَّبعِ,
لكنَّها قد تصرخُ
إذا لَمَسَ أحدُنا أريكَتها
بينمَا هو يلتهِمُ لوْحًا منَ الشُّوكولاطة
ذاتَ يومٍ ، زرتُ جدَّتي فَسَألتْني :
- هَلْ تحِبُّ حلوى الحليبِ بالخرُّوبِ يا مجيدُ ؟
سأصنَعُها من أجلكَ, حبيبي ...
دَخلنا المَطْبَخَ وَشَرَعَتْ جدَّتي تقطعُ قرونَ الخرُّوبِ وأخذت أساعدُها .
ثمَّ انهمكتْ باعدادِ الحلوى وَوقفتُ أنا بجانبِها أراقبُها .
بينما كانت تغنِّي أغنيةً لم أتبينْ كلماتِها
قالت جدَّتي عنْها ،إنَّها أغنية فلسطينيَّة قديمة,
إعتادتِ النِّساء أن تغنِّيَها
في الأعراس ، "أيَّام زمان" .
جلسنا أنا وجدَّتي ، تحتَ الزَّيتونةِ في الحديقة,
فوق مقعد خشبيٍّ مغطّى بفرشةٍ مزركشة ، صنعتْها جدَّتي من أثوابِها القديمة .
أكلتْ جدَّتي طبقَها باستمتاعٍ كبير .
وأكلتُ أنا ببطءٍ شديدٍ وبلا تلذُّذٍ,
لأنَّني لا أحب حلوى الحليبِ بالخرُّوب ،
لكنَّني أحبُّ جدَّتي .
وسرعانَ ما أخذتني جدَّتي بحكاياتِها الجميلة الى بلادٍ خرافيَّة ، أبطالها " ستّ الحسن " و " بدر الزَّمان " و" الشَّاطر حسن " .
جدَّتي أحلى حكواتيَّة,
إستمعت إلى حكاياتها عشرات المرَّات
ولم أملّها أبدا .
جدَّتي كانت تخيطُ يومًا ثوبًا لها .
وعندما نفذَ الخيطُ ، طلبتْ منِّي أن أُدخِل خيطًا جديدًا في الإبرة .
قالت لي وهي تعود ثانيةً لخياطة ثوبِها :
" حبيبي مجيد ، الله يسلِّم إيديك يا ستِّي " !
شعرت بفخر كبيرٍ .
فرحتُ وأخذتُ أكبر وأكبر حتَّى أصبحت بحجمِ فيلٍ .
وتخيَّلت أنَّني بطلٌ مغوار ، من أبطالِ حكاياتِ جدَّتي .
مَرَّ زمنٌ طويلٌ .
وها أنا اليومَ ، أجلسُ في حديقةِ جدَّتي ، فوق
المقعدِ الخشبيِّ,
لكنَّ جدَّتي ليستْ هنا,
أصبحتِ اليومَ في مكانٍ بعيدٍ,
بعيدٍ جدّا,
فرشتُها غريبةُ الألوان ... ما زالت هنا.
وشجرةُ الزَّيتونِ التي زَرَعَتْها بِيديْها هي وجدِّي
تظلِّل المقعَدَ الخََشَبي.
وحكاياتُ جدَّتي أيضا ما زالت هنا,
تسكنُ في رأسي .
ورائحة جدَّتي
وضحكتُها
لكن شيئا واحدًا أفتقدُهُ بشدَّةٍ,
انَّه حلوى الحليبِ بالخروبِ,
إكتشفتُ اليومَ فقط
كم كانَتْ لذيذةً
وكم كنتُ أحبها ...
اللوحات للفنان الفلسطيني اسماعيل شموط