البَتْراءُ، المدينة المنحوتَة في الصَّخرِ، تقعُ بالقربِ مِن وادي موسى في الجنوبِ الغربيِّ من شرقِِ الأردن «المملكة الأردُنِيَّة». كانتِ المياهُ متوفِّرةً في هذه المِنطقة, وتحيطُ بها الجبالُ ممَا جَعلها صالحةً لنزولِ القوافل للاستراحةِ والتزوُّد بما يلزمُ من الماء.
في هذِهِ المِنطقةِ أنشأ الأدوميُّون بعضَ المدنِِ، ولكنَّهم تعرَّضُوا لعدَّةِ هجماتٍ من القبائلَ البدويَّةِ التي كانت تسكنُ الجزيرةَ العربيَّة، وبنتيجةِ هذه الهجماتِ حلَّ البدوُ العربُ الذين عُرِفوا باسمِ الأنباط مَحَلَّ الأدوميين في سكن وادي موسى. هؤلاء الأنباط هم من عربِ الشّمال، إستقرُّوا في سوريا في بدء القرن السَّادس قبل الميلاد بعد أن كانوا قبائل رُحَّل، وأصبَحَ موطنُهم في شرق الأردن, حيث كانت ممالكُ أدوم وموآب وعمون وجلعاد في القرن الثَّالث عشر قبل الميلاد. خلال قرنينِ تركَ الأنباط حياةَ البداوَةِ، وأخذوا يتعاطون الزِّراعة والتِّجارة، ثم أقاموا مملكةً عاصمتُها البتراء «سالع» وبقي الغموض يكتنف هذه المملكة حتَّى عام «169 ق.م» عندما اشْتَهَرَ أحدُ ملوكِها ويُدعى الحارِثُ، ودامَتْ حتَّى «106 م» حيث ضُمَّتْ سياسيًّا إلى ولاية سوريا «الرومانية».
وأوَّلُ ذكرٍ للأنباط في التَّاريخِ يعود إلى «674 ق.م» في قائمة آشورية تُعدِّدُ أعداءَ آشور ، ولكنَّ البتراء في هذه الفترة كانت بيد الأدوميِّين ويَذكر المؤرِّخ «ديوديورس الصِّقلي» أنّهم كانوا يعيشون في تلك المنطقة منذ نهاية القرن الرَّابع قبل الميلاد.
وجاءَ الاسكندرُ المقدوني بحملتِهِ على هذِهِ البلادِ، وأرسَلَ جيشًا بقيادة أحدِ قوَّادِهِ لاحتلالِ بلاط الأنباط، وتوغَّل هذا الجيش في بلادِهم ولكنَّهُ عجزَ عن إخضاعِهم..
ولما ماتَ الاسكندر انقسمتْ إمبراطوريَّتُه إلى عدّة أقسام، ووقعت مصر تحت حكم بطليموس، وسوريا تحت حكم سلوقس.
وكان التَّنافسُ شديدًا بين الاثنين؛ وأراد سلوقس أن يقطع التجارة عن منافسه في مصر لذلكَ حاولَ احتلالَ بلاط الأنباط التي تسيطرُ على طرق التجارة البريّة، فأرسَلَ حملة مؤلفة من «4000» جندي مشاة و«600» جندي خيّال سنة «312 ق.م».
وحاول البطالسة من جهة أخرى، وبعد أن أدركوا أهمية موقع بلاط الأنباط التِّجاري، أن يفرضوا سيطرَتَهم عليهم، ولكنهم أدركوا صعوبة احتلال أرضهم، فعزموا على أن يتركوا لهم استقلالهم وأن يجعلوهم تحت نفوذهم؛ لذلك استولوا على المُدن الفينيقيّة وبلادنا التي كانت تنتهي إليها قوافل الأنباط، وأقاموا عدة مستعمرات مجاورة لهم.
إنَّ أوَّل ملوكِ الأنباط الذين تذكرهم المصادر هو الملك الحارث الأول الذي حكم بين سنتي «146-169 ق.م». ثم الحارث الثاني «69-110 ق.م» وفي عهده بلغت الدولة درجة عالية من القوة.
والحارث الثَّالث النَّبطي «62-87 ق.م» أشهر ملوك الأنباط على الإطلاق، ويُعتبر عصره من أزهى العصور النبطية التي تحقق فيها للدولة الاتساع والمجد والانتصار. وامتد نفوذ الأنباط ليشمل فلسطين، وتولى مملكة الأنباط بعد الحارث الثالث ابنه عبادة الثاني «47-62 ق.م». ثم عبادة الثالث «9-30 ق.م»، ثم الحارث الرابع «9 ق.م - 40ميلادية»، وعاشت المملكة في عهدة فترة أكثر رخاء وأمنًا..
أهم مدن الأنباط «البتراء» وهي الأرض التي نبتَتْ عليها ثمارُ الحضارة النَّبطية وأتت أُكلها، وليس يعني هذا أن الأنباط كانوا أول من سكنها أو أقام على أرضها، فقد أثبتت الحفريات أن موقع البتراء كان مأهولاً منذ العصر الحجري القديم كما وجدت كهوف وآثار قائمة فيها تعود إلى العصر الحجري الحديث.
على أن الطَّابع العربي يظلُّ الطَّابع المسيطر عليها، لأنَّ الأنباط عرب ويشهد على عروبتهم أنَّهم كانوا كذلك في نظر من كتب عنهم من الكتّاب المؤرخين اليونان والرُّومان، وأن أسماءَهم عربيَّة أصيلة: «الحارث، مالك، عبادة، شقلية، جميلة».
وتقع البتراء في أرض مستوية ومنبسطة عمومًا، وتحميها الجبال الصَّخرية من جميع الجوانب، وهذه الجبال سحيقة الانحدار من الخارج ويعتريها الجفاف، ولكنَّها من الدَّاخل كثير الينابيع، ومن مياهها يستقي النَّاس ويروون البساتين.. ولا تزال آثار قنوات المياه باقية حتَّى اليوم.
وأهم آثار البتراء الباقية إلى اليوم هو الأثر المدهش المسمَّى بالخزنة وهي عبارة عن بناء مكوّن من طابقين محفورين بالصَّخر، ولها واجهة جميلة جدًا تشهد على حضارة الأنباط العظيمة.