قلْتُ هذا جازِمًا والغَضَبُ يَتَطايرُ مِنْ عينيَّ.
وَلأوَّلِ مرَّةٍ أشعر أنَّني أقفُ في وجهِ جدَّتي مِن دون أن أشعرَ بالذَّنبِ.
توقَّعتُ أن تسارعَ أمِّي إليَّ وتقف قبالتي رافعةً سبابتَها قائلةً:
ـ أخفضْ صوتَك يا ولد, ولا تخاطبْ جدَّتك التي ربتْك بهذه الطَّريقة، ولا تُسمِعْ جدَّتك كلمةً ممَّا تقول.
توقَّعت أن تذكِّرني أنَّني لم أتجاوزِ العاشرةَ. توقَّعْت أن تقولَ أيَّ شيء، لكنَّها لم تفعلْ، بل أطبقَتْ شفتيها ونظرَتْ خارج النَّافذة كما تفعل عادة عندما تحرد لأمر ما.
ومن غيرِ أن تنظر إليَّ، ألقت نظرة سريعة على وجه جدَّتي المتغضن وخاطبتها قائلةً:
ـ دعيه!
كلمتُها هذه أشعلت غضبي، فسارعتُ لارتداءِ معطفي وقبَّعتي الصُّوفية والخروج تحت المطر.
وقفت عند عتبة بوابة الحديقة الحديديَّة الخارجية أتأمَّل الليلَ الباردَ المظلمَ وأتذَكَّر الفراش النَّاعم الدَّافئ ونغمة صوت أمِّي التي لم تكفّ يومًا عن سردِ حكاياتها مذْ كنتُ صغيرًا حتَّى ارتبط موعد النَّوم بموعد الحكايات.
لماذا لا أرجع؟
سؤال داعَبَ مخيِّلتي وإنِ اسْتَسْخفتُهُ لسرعةِ ورودِهِ إلى خاطري ولما أسجِّلْ موقفًا بعدُ. وأكَّدَ الهواء البارد على سخف سؤالي عندما أطبق البوَّابة الحديديَّة وكأنَّه يساعدني في اتَِّخاذ قراري.
وقفت أتأمَّلُ المنازلَ المجاورةَ لمنزلِ جدِّي. كانت كلّها مُضاءَة في الدَّاخل، وكانت دافئةً بالتَّأكيد.
ألصقتُ ظهري بالبوابة الحديديَّة، فسرَتْ رطوبةُ الأمطارِ في ثيابي وَوَصَلَتْ إلى جِلدي، فابتعدتُ عنها في الوقت الذي نبح فيه صوتُ كلبٍ قريبٍ ترافق بإشعال ضوء حديقةِ منزلنا. ولمَّا كان توقُّعي الأوحدُ هو أنَّ أمِّي هي التي أضاءَتْه لتلحقَ بي، سارعْتُ مغادِرًا المكانَ بسرعة.
ـ يجب ألا أخضعَ لهذا القرار. يجبُ ألا أقبلَ به، سيخرجني من الجنَّة، سيأخذ مني امرأةَ حياتي.
وَرُحْتُ أركُضُ بينَ البيوتِ المتقاربةِ المسوَّرةِ إلى أن وَصَلت إلى آخر بيوتِ الحيِّ، وكان الحيُّ يغلق عنده. ولحسنِ حظي، كان القرميد يمتدُّ فوق بوابة حديقتِهِ ويمنعُ مياهَ الأمطار منَ الوصول إلى العتبةِ تحته, فوقفْتُ أشدُّ معطفي إلى أن فُتحَت البوَّابة وَخَرَجَ منها رجل خمسينيٌّ مُستعجِلٌ. تراجعتُ إلى الوراءِ. خفتُ أن يظنَّ صاحبُ البيتِ أنَّني لصٌّ صغير، وله الحقُّ، فمَنْ يخرج في هذا الجوِّ العاصفِ غير...
وَقطَعَ وجودَهُ حبلُ أفكاري. تبيَّنْتُ وَجْهَهُ. كانَ مستديرًا وكأنَّه مرسومٌ بواسطةِ بيكار، وكانت عيناهُ عسليَّتَينِ صغيرتينِ غُطِّيتا أو كادَتَا بشعرِ حاجِبين سَميكين أبْيضيْن يشبهانِ حاجبَيِّ بابا نويل، وكان شعرُهُ الفضِّي النَّاعمُ مُمْشَطًا إلى الخلف بأناقَةٍ واضحَةٍ، وكانت ابتسامتهُ ساحرةً بكل ما في الكلمة من معنى حتَّى إنَّني رَدَدْتُ على تحيَّتَهُ بمثلها:
ـ مساء الخير يا صغيري...
ـ مساء الخير عمُّو...
ـ أنا عمُّو سليمان السَّعيد الصَّحفيُّ.
ـ وأنا وليد أسكن في هذا الحيِّ.
ومدَّ كفَّه الدافئةَ مصافحًا:
ـ أهلاً وليد.
ولم يسألني عن سبب وقوفي أمام بيته، بل سألني إنْ كنتُ أفهمُ بقضايا الكومبيوتر، فأجبتُه بالإيجاب، فأفسح لي المجال للدُّخولِ إلى منزله وهو يقول:
ـ كنت خارجًا للبحثِ عمَّن يساعدني من أولاد الجيران في البحث عن الملفِّ الذي أكتب عليه، وأخشى أن أكون قد ألغيتُه بكبسة زرٍّ خاطئةٍ.
ـ يا لها من فرصةٍ!
قلت لنفسي وأنا أسيرُ بجانبه نحو منزله الكبير ذي الأثاثِ القديمِ العريقِ. كان الدِّفء يملأ المكانَ، تمامًا كما كانت كؤوس الشاي الفارغة والصحون والملاعق تملأ الطاولات، بالإضافة إلى الأوراق والصُّحف القديمة. وسارَعَ الرَّجل إلى أخذ معطفي وقبَّعتي وَوَضَعَهُما قربَ المدفأة، ثمَّ أحضر لي كوبَ شايٍ ساخنٍ وهو يقولُ:
ـ أنتَ في سنِّ حفيدي.
وأشار بسبابتِهِ إلى صورتِهِ المعلَّقةِ على الجدارِ المقابلِ قائلاً:
ـ هاجَرَ مع أبويْه إلى كندا، و... بقيت وحيدًا. كان يساعدُني في تنسيق مقالاتي بعد أن علَّمني كيف أصفُّها وأطبعُها... لكنَّني..
وضحكَ فبانت أسنانه البيضاء الناصعة:
ـ ما زلت أصادف بعضَ المشاكل التكنولوجية.
لمعَت عيناه بشدة، أو هكذا خيل إلي قبل أن أدرك أنه استطاع حبس انهمار دموع ذكَّرتْه بحفيده. إلا أنني لمست هذا من خلال أصابعه التي داعبَتْ شعري بحنان ثم نزلَت إلى كتفيَّ وهو يدعوني إلى البحث عن ملفِّه الضائع.
وجدت الملفَّ، وكاد يرقص فرحًا، وسارع إلى إحضار الشوكولا ليملأ بها جيوبي، ثم اتجه إلى المطبخ وأحضر صحن الكستناء لنشويَها معًا، ولم أعترض.
لم أعترض لسببين: أولُهما: أنني لا أريد العودة إلى منزلي بسرعةٍ، وثانيهما: لأنني اكتشفت هذا الرجل الرائع الذي يبذل قصارى جهده لتسليتي. وفجأةً توقف عن الكلام:
ـ أَخَّرتك؟
ـ لا ..لا ..
ـ ولكن يجبُ أن تنام لتنهض باكرًا إلى مدرستِك.
ـ لا ....أقصد...
ووجدتني أبوح له بكلِّ أسراري:
ـ لا أريد العودة إلى البيت لئلا تعتقد أمي أنني رضخْت لمطلبها.
ـ وهو؟
ـ تريدُ أن تتزوج.
ـ ووالدُك؟
ـ توفيَ مذ كان عمري سنة واحدة.
أطرق بحزن:
ـ أنا آسفٌ لأنني أثرت أحزانك القديمة.
قلت:
ـ أنا أعاني من أحزان جديدة.
سأل:
ـ هي شابة؟
ـ في الأربعينياتِ.
ـ وما سبب اعتراضك؟
قلت بغضبٍ:
ـ لن يدخل ذلك الرجل القاسي الغليظ حياتي فيبعَد عني أمي.
قطب حاجبيْه الأبيضين وهو يرفع وجهي الصغير براحتيْه:
ـ تعرفُه؟
ـ لا أعرفُه، ولا أريد.
وتذكرْت الحكاياتِ التي كانت أمي تقصُّها عليَّ. تذكرْتُ أبطالها الصغار الذين يعانون من معاملة زوج الأمِّ القاسية، وقلت على الفور:
ـ إنه أشبه بغولٍ... أسنانه سوداء وأظفاره قذرة، ويكره الصِّغارَ ويضربُهم.
استغربْت كيف أثارَ كلامي ضحكَ الصحفيِّ الذي علَّق:
ـ قد لا يكون كذلك.
أصريْت:
ـ بل هو كذلك. كلُّ الحكاياتِ تقول هذا. سيضربني.. ولكنني لن أسمحَ له، سأهرب من البيت بعد أن أضع السُّمَّ في طعامِه، والشَّوك في فراشِه، وأستخدم كل الأدوات التي تستخدمها أمِّي في عيادتِها لاقتلاع أسنانِهِ السَّوداء، وسأقولُ له بصراحةٍ ومِن دون خوف إنَّني أكرهُهُ.
لم يقُلْ عمُّو سليمان شيئًا رغم أنني كنت أنتظر أن يفعل، بل اكتفى بطرح سؤال صعب:
ـ والحلُّ؟
ـ لا أعرف.
ـ ابق عندي. أنا بحاجةٍ إليك. أنت تذكرني بحفيدي المهاجر، وتساعدني في حلِّ مشاكل الكومبيوتر.. نزرع معًا الحديقة ونعتني بها..نخرج إلى رحلات في الطبيعة..و...
ونهض إلى غرفة مجاورة ليحضرَ عودا قديمًا وَضَعَهُ في حضني:
ـ أعلِّمُك عزفَ العود.
وفتحَ ذراعيْه:
ـ ونحضِّر معًا أشهى الأطعمة، فأنا طبَّاخ ماهر.
ورفعَ وجهي بسبابتِهِ ليقولَ:
ـ عدا عن ذلك، فأنا أعشقُ حلَّ مسائل الرِّياضيَّاتِ، وأعشق الرَّسمَ، وأعشق حضورَ الأفلام الخياليَّة.
وجلس قبالتي وقد خَفت صوته وملأتْهُ نبرةُ حزن:
ـ وليد..أنا أعيش وحيدًا بلا عائلة..أحبُّ الأطفال والموسيقا والكتابة والزِّراعة.. وأحتاج إلى صديقٍ صغير مثلك أحبُّه ويحبني.. هل تقبل؟
وبدون ترددٍ قلت:
ـ أقبل.
وفاجأني بسؤاله:
ـ وماما؟ نتركها مع الغولِ؟
ـ لا أعرف.
سألني:
ـ نجلبها إلى هنا؟
ضحكت:
ـ يا سلام..أنت لا تعرف ماما. ماما لا تقبل بوجود كل هذه الفوضى، سوف ترسم لنا نظامًا صارمًا لا يقل عن نظام عيادتها.
قال ضاحكًا:
ـ نخترقُه أنا وأنت. أنا وأَنتَ رجلان، يعني أقوى منها.
ـ قد لا تعجبها حياتنا المليئة بالنَّشاطِ يا عمُّو سليمان...
ـ ستعتاد عليها.
أسعدتْني فكرة انضمام أمِّي إلينا أنا وعمو سليمان وإن كنت أشكُّ بقبولِها. هززْتُ رأسي قائلاً:
ـ ستعتاد.
قال:
ـ حاول أن تقنعَها يا وليد. أنت ابنها وأَعرَف بها مني. إنَّها، على كل حالٍ، مرحةٌ مثلنا أنا وأنت.
قلت مؤكدًا وأنا أتذكر كلَّ مقالبها المضحكة التي تقوم بها:
ـ مرحةٌ..طبعًا.
وهمسَ في أذني:
ـ على كل حالٍ.. سنكون مهذبين مطيعيْن في البداية ريثما تثقُ بنا.
ضحكْتُ قافزًا:
ـ سنكون.
وناولني معطفي وقبعتي واصطحبني إلى البوابة الكبيرة السَّوداء ثم إلى بوابة منزلِ جدي حيث طرقْنا الباب ففتحَتْ أمي بلهفة ودهشة وهي ترانا معًا، وقبل أن تتفوهَ بحرف سألَها عمو سليمان:
ـ هل تأتينَ للعيشِ معنا في منـزلِ الصحفيِّ سليمان السعيد؟
شهقَت أمِّي فقال:
ـ نحن مهذبانِ، مطيعانِ، ولا نخالف أوامرَك يا دكتورة.
كانت تلك ـ على ما أعتقدُ ـ أجملَ طريقةٍ في العالم تمَّ فيها تكوين عائلةٍ جديدة.
والغريب أنني لم أعرف ـ إلا فيما بعد ـ أن عمُّو سليمان الرَّائع هو نفسُه الذي كانت جدتي تطرحُ مسألة زواجِ أمِّي به عندما هربت من البيت تلك الليلة!