عنبتا حوريَّة كنعانيَّة تفرِدُ شَعْرَها
عنبتا تبوحُ بأسرارها
بقلم: زياد جيوسي
بيت مضيفينا السيد ابو فراس (نايف عبد الحليم) والسيدة سوسن نجيب، وهو بيت قديم جرى ترميمه فأصبح جنة.
عدسة: زياد جيوسي
لم أنمْ ليلةَ السَّبت جيِّداً وأنا أحلمُ بلقاءِ عنبتا، فالعاشِقُ لا يعرف النَّوم، فكيف حين يكون موعِدُهُ مع عنبتا الكنعانيَّة، تفترشُ الوادي حلماً، وتنثر شعرَها على التِّلال؛ وتمسك بيدي، وتجول بي، وتهمس لي بأسرارها، تروي لي الحكاية والرِّواية، تكشف لي أسرار الأجداد، وقصص الجدَّات، وتنقل لي وصايا الجدود وأحلامهم التي عاشوا وماتوا لأجلها، وكنت أشعر وأنا أقف في شرفة بيت السَّيِّد (أبو فراس) التي تحتل مساحة واسعة من هذا البيت الجميل، والذي تم ترميمه وسكنه، فتحوَّل إلى صورة جماليَّة رائعة تساهم بالحكاية وترويها، فهو من البيوت التي تحمل بعضاً من عبق الماضي.
قوس أبو شقير، متى سيعود بوابة عنبتا ومعبر استقبال كبار ضيوفها وتزول التشويهات عنه؟
عدسة: زياد جيوسي
كنت أشعر أنِّي أريد الطَّيران باتِّجاهِ البلدة القديمة التي أراها من البعيد، وأشعر أن قلبي سبقني إلى معانقتها والجمال،
منـزل السيد عوني جاد الله وهو من بيوت العقد القديمة يحافظون عليه ويضمهم بحنان
عدسة: زياد جيوسي
أنهيتُ الإفطارَ الذي أعدَّتْهُ السَّيِّدة سوسن نجيب صاحبة الدعوة لي لزيارة عنبتا ومنسقة البرنامج والندوة والجولات، واحتسيت القهوة مع المضيفين الرائعين، حيث تناولنا إفطاراً تقليديا رائعاً من فطائر الزعتر والجبن التي أكلت منها بشهيَّة، لنبدأ بعدها رحلتنا مع الشَّباب متطوعي الهلال الأحمر الفلسطيني في عنبتا، ، وكنت أتوق للجولة رغم المطر، لنبدأ التجوال في البلدة القديمة وقوس أبو شقير؛ هذا القوس الحجري الجميل، والذي ما زال في حالة جيدة، وإن كان بحاجة لاهتمام أكثر، فهنا كانت عنبتا تحتفي بضيوفها، وممن استضافتهم واحتفت بهم ومرّوا من القوس، الملك سعود ملك السُّعودية رحمه الله، والكثير من الأمراء والمشايخ والضُّيوف،
الحاج أبو شاهر، صبحي البلبيسي، الذي جال بنا في بيوت الحي التي تروي حكايات.
عدسة: زياد جيوسي
عبرت القوس بعد أن استمعت لهمساته، وبدأت بمعانقة التَّاريخ، أتلمَّس الحجارة القديمة بيدي، وألقي لها أذني وهي تهمس لي الحكايات، متجولاً في أزقَّة بيوت تراوحت بين الفترة المملوكيَّة والفترة العثمانيَّة، وكان الهمشري يشرح لنا ويسهب بالشرح عن رموز المباني، فالكثير منها ما زال يحمل أثر المواعين الدائرية التي ترمز للمكانة الاجتماعية لساكن البيت، والنقوش التي تشير إلى العمل الذي كان يترأسه الأجداد، فصديقنا بحكم تخصصه في الآثار ودراسته لها، كان ينقل لنا همسات الحجارة والتاريخ، والأستاذ عمر يذكر لنا أسماء الذين سكنوا هذه المواقع التي يحفظها جيداً، ويروي لنا بعض الحكايات التي يذكرها عن الأمكنة كحكاية العجل الهارب، وحكاية الشيخ ظاهر العمر الذي أرسل أربعين جملاً محملة، كتعبير عن اعتذار لقصور صدر منه تجاه أحد رجالات عنبتا وشعرائها، ويكمل الأحاديث الأستاذ أسعد عبد الصَّمد، والذي لحظ اندفاعي في التِّجوال والدُّخول بين البيوت الآيلة للسُّقوط، فكان يقفز أمامي كجواد بري أصيل كي يمهد لي الطَّريق، لنصل إلى أنبوبة الماء، التي كانت تسقي الجزء الغربي من عنبتا في الرُّبع الأوَّل من القرن الماضي، ومنها إلى عِليّة دار جابر التي ما زالت تقف بإباء وشموخ، والتي بناها أصحابها وقد خلطوا الجير بزيت الزَّيتون ليلصقوا الحجارة ببعضها، مشيرين بذلك إلى حجم مركزهم وثروتهم، وقد لاحظنا أن البيوت تواجدت بها طاقات فخارية تسمح للنِّساء أن يعرفن من القادم، دون أن يتمكَّنَ هو من رؤية النِّساء.
من الماضي نطل على الحاضر فلنحافظ على حكايات الأجداد
عدسة: زياد جيوسي
واصلنا التِّجوال تغمرنا مشاعر النَّاس الذين رأونا وكانوا يصرُّون على الضِّيافة، فكان اللقاء مع مسجد عنبتا القديم الذي بني العام 1323 هجريَّة، وتزين قاعدة قوس بوابته قصيدة الشَّيخ محمود عبد الحليم، منقوشة على الحجارة التاريخية، وبعدها زرنا بيت الشيخ عبد الرحيم شهاب، والشَّيخ إدريس الذي كان من حفظة القرآن، وعُرف عنهم أنَّهم كانوا في بداية موسم الشِّتاء يقرؤون القرآن على اثنين وسبعون ألفاً من الحصى الصَّغيرة، ويضعونها في دلاء في بئر ماء، حتى تفيض الآبار بما جاده الغيث بإرادة الله،
إن ذهب هذا التراث فمن سيروي لأحفادنا الحكاية؟
عدسة: زياد جيوسي
عنبتا شهدت البدايات في العصور البرونزيَّة، مروراً بكنعان جدِّنا الأوَّل الذي أرسى الحضارة، مروراً بالهجرات السَّاميَّة المتعاقبة، واحتلال روماني ترك أثره ولفظت احتلاله الأرض المقدَّسة، وصولاً للحقبة العربيَّة الإسلاميَّة المجيدة التي أعطت الأرض مجدها والوطن رفعته، مروراً بالفترات المملوكيَّة والعثمانيَّة، حتَّى الوصول إلى مرحلة الانتداب البريطاني من 1916 وحتى 1948, فالإسرائيلي من العام 1967 وحتى اليوم،
أكملنا جولتنا السَّريعة في أزقَّة عنبتا وبين حجارتها التي تروي الحكايات، لنتجه إلى التِّلال التي تروي مغائرها وصخورها قصص وحكايات أخرى، روايات ضاربة جذورها في التَّاريخ، عامرة بأشجار الزَّيتون الرومي، ومغائر ومعاصر وطواحين وتاريخ، وهناك شدتني الحورية الكنعانية عنبتا القادمة من عبق التاريخ من يديّ، وَضَمَّتني لصدرِها بكلِّ حنان ودفء، وهمست وهي تنظر في عمق عيني: أنا الآن أقف معك وأهمس لك بأسراري..
(على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَرْ
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ..).
مطحنة أبو رأسين
بئر
آثار رومانية قديمة
فهكذا شدَّت نازك الملائكة، فهل ستكتم أسراري؟ فهمست لها: وأنا سأقولها لكِ بكل حبٍّ وصراحة،: صدري سيضيق على كتمان قصَّة عشق، تمتدُّ من جذور التَّاريخ حتى تصل إلى صدري وتسكن قلبي، فاعذريني إن بحت ببعض أسرارك من خلال حروفي يا حوريَّتي الكنعانيَّة،
وقد اتَّحدت روحي مع عنبتا أرض الزَّهر في بلادي، فصباحكم أجمل مع همساتها والنَّسمات الكرميَّة.