أنا محمود سليم درويش. وُلِدْتُ في الثالثَ عشَرَ من شهر آذار سَنةَ 1941م, في قريةٍ فلسطينيةٍ صغيرةٍ تَقَعُ شَرْقيَّ مدينةِ عكا تسمَّى "البروة", وقد صَمَدَتْ هذه القريةُ في حرْبِ عام 1948, ولم تَسْقُطْ إلَّا في اليومِ الرابعِ والعشرينَ من شهر حُزَيْران في ذلك العام, بعد أن دُمِّرت كليًّا, وأقيمتْ على أنْقاضِها مستعمرةٌ يهوديةٌ تدعى "أحيهود" وهي مستعمرةٌ يقطُنُها كثيرٌ من يهودِ اليمنِ والمَغْربِ.
وعلى أيَّ حال, فقد غادرْتُ قَريتي, كما فعلَ أهْلُها جميعُهم, واتَّجهْتُ نَحْوَ الشَّمال, وتَعَرَّضتُ في أثْناءِ هروبي إلى الضَّياع, حيثُ استقرَّ بيَ المُقامُ في مكانٍ قيلَ لي عنه إِنَّه لُبْنان, الذي لم أسمعْ به إلَّا يَوْمذاك. والحقيقةُ أنَّ هِجْرَتي وهروبي وضَياعي قد وضعَ حدًّا لطفولتي مُنْذُ وقْتٍ مُبَكِّر. وما زِلْتُ أَذكرُ تلكَ الأيامِ القاسيةَ التي عشْتُ فيها "لاجئًا" في لبنانَ بعيدًا عن وطني وأهْلي, ولكنَّ الأمَلَ في العودةِ لم يُبارحْ قلبي.
ولقد تحقَّقَ لي ما كان أملًا, فقد عُدْتُ بَعدَ سنةٍ إلى وطني, إلى فلسطينَ, ولكنَّ المفاجأَةَ الكُبْرى كانتْ عندما وجَدتُ نَفْسي, مرةً أُخرى, بعيدًا عن قريتي "البروة", ولاجئًا في قريةٍ فلسطينيةٍ أُخْرى هي "دير الأسد". وليس أصعبَ على المَرْءِ من أَنْ يعيشَ لاجئًا في وَطنهِ.
نشأْتُ في أسرةٍ متوسطةِ الحال, تَعيشُ على الزِّراعةِ, والاعتمادِ على الأرضِ, شأْنُنا في ذلك, شأنُ معظمِ الأسرِ الفلسطينيةِ الريفيةِ آنذاك, وكُنْتُ فَرْدًا من أسْرةٍ تتألَّفُ من خمسةِ أولادٍ, وثلاثِ بناتٍ, وأبٍ وأمٍّ, وكان بعضُ إخوَتي, وخاصةً أحمد وزكي, من المولعينَ بالأدبِ والمشتغلينَ به, فتأثَّرْتُ بهم في مَطْلَعِ حياتي الفِكْرِيةِ, وبدايةِ مسيرتي الأدبية.
ثقافتي
تُعَدُّ نشْأَتي الثقافيةُ شبيهةً, إلى حدٍّ كبيرٍ, بنشأةِ أَبْناءِ وطني, ورفقاءِ دَرْبي في وطني. نعَمْ, لقد تلقَّيْتُ تعْليمي الابتدائيَّ والثانويَّ, غَيْرَ أنِّي لم أَكُنْ أُعوِّلُ كثيرًا على ما كانت تُخطِّطُه المناهجُ والبرامجُ الدراسية, ولهذا, فقد كنْتُ أَعْتَمِدُ, في بناءِ ثقافتي, وإِطْفاءِ ظَمَئ المعرفةِ لديَّ, على مطالعاتي الخاصَّةِ. فكنْتُ, بهذا, مِمَّنْ صَنَعُوا أَنْفُسَهم بأنْفُسِهم, لأَنَنِّي على يقينٍ منْ أَنَّ الوطنَ كانَ يَنْتَظرُ نُضْجيَ الثقافيَّ لأكافحَ من أجْلِهِ بسلاحِ الكلمةِ, وثورةِ الأدبِ.
انتاجي الأدبيّ
يَتميَّزُ إِنتاجي بالغَزارةِ والتَّتابُع, في مجالاتِ الأَدبِ المُخْتَلِفةِ الشعريةِ مِنْها والنَثْرية. ولقد بدأ عطائي وإنتاجي الأدبيُّ بالظُّهورِ مُنْذُ سنٍّ مبكِّرةٍ, وما زِلْتُ صديقًا حميمًا للقلمِ الذي أَجِدُ فيه السَّلْوى والعزاء, بل وأَجِدُ فيه الرئةَ الصالحةَ التي تمكِّنُني من التَنفُّسِ في خِضَمِ الأَجْواءِ الخانقةِ التي نَعيشُها في ظُروفِ وطننا الصَّعْبَةِ. وسأكتفي بذكرِ بَعْضِ ما أنْتجْتُهُ من فكرٍ وأدبٍ غَنَّيْتُ فيه للوطن, وجسَّدتُ فيه وجداناتي نَجْوَهُ:
* عصافيرُ بلا أَجْنحة, وهو ديواني الشعريُّ الأَوَّلُ, وقد صَدَرَ سَنَة 1960م, وأنا في مُقْتَبلِ العُمُر.
* أوراقُ الزَّيْتون, وهو ديوانُ شِعْرٍ صَدَرَ سَنَة 1964.
* عاشقٌ من فلسطين, وقد صَدَرَ هذا الديوانُ سَنَة 1966م, وفيه ظَهَرتْ التَّجْربةُ النِّضاليةُ القاسيةُ, لأن القِسْمَ الأكْبَرَ منه كُتِبَ في السِّجْنِ.
* آخرُ الليل نهار, وقد صَدَرَتْ هذه المجموعةُ الشِّعْريةُ سَنَة 1967.
* العصافيرُ تموت في الجليل, وقد صَدَرَ هذا الديوانُ خلالَ إقامتي في موسكو, وكتَبْتُ معظَمَ قصائِدِهِ سَنَة 1969م.
وليَ أعمالٌ أُخْرى مثل: حبيبتي تَنْهَضُ من نَوْمها, ومَطَرٌ ناعمٌ في خريفٍ بعيدٍ, وديوان روميات أبي فراس الحمداني, ويومياتِ الحُزن العادي, وأُحِبُّكِ أَوْ لا أُحِبُّكِ, وأحمد الزعتر, ومحاولة رقم 7, وكتابة على ضوء بندقية, وشيءٌ عن الوطن, وغيرها.
وفي نهايةِ هذا الحديثِ المُخْتَصَرِ والمُوجَزِ, أودُّ أنْ أعرضَ شيئًا يَسيرًا من أشْعاري, التي أعتزُّ بها, منها قولي:
وأنت تعدّ فطورك
لا تنس قوت الحمام
وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك
لا تنس من يطلبون السلام
وأنت تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك
من يرضعون الغمام
وانت تعود إلى البيت ، بيتك ، فكّر بغيرك
لا تنس شعب الخيام
وأنت تنام و تحصي الكواكب ، فكّر بغيرك
ثمّة من لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر
بغيرك
من فقدوا حقّهم في الكلام
وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين ، فكّر
بنفسك
قل: ليتني شمعةٌ في الظلامْ
إلـى أمّــي
أحنُّ إلى خبزِ أمّي
وقهوةِ أمّي
ولمسةِ أمّي
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يوماً على صدرِ يومِ
وأعشقُ عمري لأنّي
إذا متُّ
أخجلُ من دمعِ أمّي
خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدبكْ
وغطّي عظامي بعشبِ
تعمّد من طُهرِ كعبكْ
وشدّي وثاقي..
بخصلةِ شَعر..
بخيطٍ يلوّحُ في ذيلِ ثوبكْ
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصير..
إذا ما لمستُ قرارةَ قلبكْ!
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّورِ ناركْ
وحبلِ الغسيلِ على سطحِ دارِكْ
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدونِ صلاةِ نهارِكْ
هرِمتُ، فرُدّي نجومَ الطفولة
حتّى أُشارِكْ
صغارَ العصافيرِ
دربَ الرجوع..
لعشِّ انتظاركْ..
بـطـاقـة هـويـة
سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟
سجِّلْ
أنا عربي
وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،
والأثوابَ والدفترْ
من الصخرِ
ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ
ولا أصغرْ
أمامَ بلاطِ أعتابكْ
فهل تغضب؟
سجل
أنا عربي
أنا إسمٌ بلا لقبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورةِ الغضبِ
جذوري
قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ
وقبلَ تفتّحِ الحقبِ
وقبلَ السّروِ والزيتونِ
.. وقبلَ ترعرعِ العشبِ
أبي.. من أسرةِ المحراثِ
لا من سادةٍ نجبِ
وجدّي كانَ فلاحاً
بلا حسبٍ.. ولا نسبِ!
يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ
وبيتي كوخُ ناطورٍ
منَ الأعوادِ والقصبِ
فهل ترضيكَ منزلتي؟
أنا إسمٌ بلا لقبِ
سجلْ
أنا عربي
ولونُ الشعرِ.. فحميٌّ
ولونُ العينِ.. بنيٌّ
وميزاتي:
على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه
وكفّي صلبةٌ كالصخرِ
تخمشُ من يلامسَها
وعنواني:
أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ
شوارعُها بلا أسماء
وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ
فهل تغضبْ؟
سجِّل!
أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخورِ
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ.. كما قيلا؟
إذنْ
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي!!
تعليقات الزوار
1 .
الى الأخ خضير
رويدة مصطفى الحياة للاطفال
تحية لك خضير ونرحب بك صديقاً للمجلة .. نحن نتواصل معكم على الفيسبوك ايضاً ..
و نعتبر موقع الفيسبوك هو حلقة الوصل بينكم وبين الموقع الرئيس للمجلة
وتسرنا زيارتكم للموقع والتفاعل بما يطرحه من مقالات ومواضيع .
اهلاً بك
- 2012-01-12 10:55:07 -
2 .
اضافه
خضير
تحيه لكل العاملين في الحياه للاطفال لي طلب ربما تستطيعون تحقيقه هو انزال الحياه للاطفال على الفيسبوك ليتسني لاكثر عدد من القراء الاطلاع على المجله دمتم في تالق شكرا