إبن النَّفيس
مولدي ونشأتي
أنا أبو الحسنِ علاءُ الدِّين عليُّ بن أبي الحزم. ولدتُ بدمشقَ سنة 607هـ، وفيها تلقّيتُ علوميَ الإبتدائيّة، ثم درستُ الطّبَّ على يدِ مشاهيرِ العُلماء، مثل: الشّيخِ رضيِّ الدين أبي الحجّاجِ يوسفَ بنِ حيدرةَ الرّحبي، وعمرانِ الإسرائيلي، ومهذبِ الدين أبي محمدِ عبد الرّحيم بن علي الدّخوار، الذي كان رئيسَ أطباءِ المستشفى النُّوريّ بدمشق.
كنتُ صديقاً، وزميلَ دراسةٍ للطّبيبِ ابن أبي أُصيبعة، صاحبِ الكتابِ المشهورِ" عيون الأنباء في طبقات الأطِّباء"، غير أنَّه كان يكبُرني بسبعِ سنوات، ولكنَّ هذا الصّديقَ والزّميلَ، الذي تحدَّثَ في كتابه عن عشراتِ العلماءِ والأطباء، تجاهلني ولم يذكرني في كتابه، وذلك بسببِ خلافٍ بسيطٍ حدث بيني وبينه، فسامحه الله على ما فعل، ولكنَّ عزائي في ذلك أنَّ علماءَ آخرين تحدَّثوا عني وعن علمي، مثل العمادِ الحنبلي في كتابه:" شذرات الذَّهب"، وجلالِ الدين السّيوطي في كتابه:" حُسن المحاضرة"، فضلاً عن مستشرقينَ أجانبَ كان لي في كتبهم ومؤلّفاتهم ذكرٌ طيبٌ عطرٌ، مثل بروكلمان، ومايرهوف، وجورج سارطون وغيرهم.
مارستُ الطّبَّ في بلدي دمشقَ، وما لبثتْ شُهرتي أن ذاعت وانتشرت فاستدعاني السّلطانُ الكاملُ محمد الأيوبي، ومعي صديقي ابنُ أبي أُصيبعة، إلى القاهرة، وكان عمري، آنذاك، لا يتجاوزُ السّادسةَ والعشرين عاماً.
وفي القاهرة، عملتُ مع صديقي في أشهر المستشفيات، وهو المستشفى المنصوري، الذي أنشأهُ السلطانُ قلاوون، ثم أصبحتُ رئيساً للمستشفى، وطبيبَ السلطانِ الظاهر بيبرس، في حين بقيَ صديقي ابنُ أبي أُصيبعة، يشتغلُ في مداوةِ العيون. وصدّقوني، أنّني تمنّيتُ لو لم أعمل في منصبِ رئيس للمستشفى، لأن ذلك، فيما بدا لي، كان السّببَ في الجفاءِ الذي حصل بيني وبين صديق عمري، ابن أبي أُصيبعة، هذا الصّديق الذي ترك القاهرةَ وعادَ أدراجه إلى الشام.
منجزاتي العلمية
كنتُ واحداً من مشاهيرِ الأطباء الذين أسهموا في مسيرةِ الحضارةِ الطبيةِ الإنسانية. وقد اعتمدتُ، في دراساتي ومؤلّفاتي، على الحفظِ، مع الأخذ بنتائج تجاربي ومشاهداتي وعدمِ التّصديق ما لم تره عيني، أو يُقِرُّه عقلي، ولذلك كنتُ لا أنقلُ عن غيري. وعلاوةً على ذلك، فقد كنتُ غزير الإنتاج، ويذكرُ التّاريخ، أنَّني عندما كنتُ أجلس للكتابة، كانت توضعُ أمامي الأقلامَ مبريّةً، فأدير وجهي إلى الحائط، وأشرعُ في التّصنيف، والإملاء من خاطري، فتتدفقُ الكتابةُ مني كالسّيلِ المُنهمر. ومن هذا المنطلق، فقد ألَّفتُ موسوعةً في الطبِّ، وكنت أعتزمُ إصدراها في ثلاثمئة جزء، إلا أنَّ المنيةَ عاجلتني، فلم أكتب منها سوى ثمانين، وقد وُجدتْ هذه الأجزاءُ في مكتبي بعد وفاتي، وهي تشهدُ بطول باعي، وعلوّ كعبي، وصبري العظيم على الكتابة والتّأليف.
*وتتمثّلُ أهمُّ منجزاتي الطّبّيّة في اكتشافي الدّورة الدّمويّة الصُّغرى، وقد كنتُ، في هذا الإكتشافِ، أسبقَ من العالمِ الإسباني" سارفينيوس" بثلاثمائةِ سنة، فقد عرفَ هذا العالمُ الدّورةَ الدّمويّةَ عن طريقي، وذلك بعد أن حصلَ على التّرجمةِ اللاتينيّة لكتابي من الطّبيب الإيطالي"الباغو"، الذي زار دمشقَ وأحضر منها عدَّة مخطوطات، من بينها كتابٌ لي، كما كنتُ أسبقَ في اكتشافِ الدّورةِ الدّمويّةِ أيضاً من العالم الإنجليزي"هارفي" بأربعمائةِ سنة. وقد أثبتَ هذه الحقيقة أحدُ أبناءِ أُمتنا العربيّة والإسلاميّة، هو الدّكتور محيي الدّين التطاوي، وهو عالمٌ مصري تمكن من العثور على مخطوطة من كتبي في مكتبة برلين، فقام بدراستها، ثم قدَّمتها في رسالةٍ لنيلِ درجةِ الدّكتوراةِ في جامعةِ فرايبورغ بألمانيا سنة 1924م. وقد أيَّدَ هذا العالِمَ المصريَّ، وأيَّدني أيضاً، في هذه القضيّة، اثنان من العلماءِ الغربيّين، هما مايرهوف، وبول غليونجي.
*وتحدّثتُ عن وظائفِ الرّئتين، والأوعيةِ التي بين الرّئتين والقلب، ووظائفِ الأوعيةِ الشٍّعريّة، ووصفتُ الحويصلات الرّئويّة، كما وضحتُ وظائفَ الشرايينِ الاكليليةِ التي تُغذِّي عضلةَ القلب.
*وأثبتُّ أنَّ الدمَ يجري إلى الرئتين، حيث يتجددُ ويُشبعُ بالهواء، لا لمدِّها بالغذاء كما يُظن، وقلتُ: إنَّه لا بُدَّ من وجودِ اتِّصال، بين أوردةِ الرئتين وشرايينهما، يتمِّمُ الدورةَ الدمويةَ ضمن الرئة.
*وقلتُ، مُخالفاً جالينوس، إنَّه ليس هناك رواسبُ، أو هواءٌ في شرايين الرئتين، وإنَّ جُدرانَ أوردةِ الرئتين، أغلظُ كثيراً من جدرانِ شرايينها، وهي تتألف من طبقتين.
*وقلتُ أيضاً، إنَّه ليس هناك صمامٌ في جدار القلب الفاصل بين البطين، بل إن الدَّم يجري في العروقِ الموزعةِ في أنحاءِ القلبِ كلِّه، ويدور فيه دورةً كاملة.
وقد أكَّدتُ أنَّ الحجابَ الحاجزَ، مع عضلاتِ الصَّدر، هو سببُ الشهيق والزَّفير، وأن الحجابَ غيرُ مثقوبٍ، وليس فيه أيَّةُ مسامَّ ظاهرة.
*وقررتُ أنَّ الدَّمَ سائلٌ يدور في جميعِ أنحاءِ الجسم، وليس سائلاً مستقراً في الأوردةِ والشرايين، كما كان يُظن.
*وكنتُ أنصحُ بممارسةِ التشريح، لأنه يؤدي إلى فهمِ وظائفِ الأعضاء، ثم إلى البراعة في شفاء المرضى، وقد مارستُ التشريح بنفسي، وإن كنتُ أُصرحُ، في بعضِ كتبي، بأنَّني قد حِدْتُ عن مباشرةِ التشريحِ بوازعٍ من الشريعة، وما في أخلاقنا من الرَّحمة.
*وتجدرُ الإشارة، إلى أنَّ طريقتي في العلاج، كانت تعتمدُ على تنظيمِ الغذاء، أكثرَ من اعتمادها على الأدويةِ والعقاقير، ولذلك فقد نفر مني الصيادلة، لأنَّ هذه الطريقةَ كانت كفيلةً بكسادِ بضاعتهم.
*واهتممتُ كثيراً بتشريح القلب، وباتصالِ العروق به، وتشريحِ الحنجرة، لأنَّني كنتُ أرى صلةً بين التنفس والنبض، أو بين التنفسِ وبين الدَّمِ من الرئةِ إلى القلب، ومن القلبِ إلى الرِئة.
مكانتي العلمية
كنتُ، كما وصفني العلماءُ والمؤرخون، نابغةَ عصري في الطبِّ، كما وصفوني بالذكاء، وسعةِ المعرفة، وحضور البديهة، والقُدرةِ على الحفظ، فقد كنتُ أحفظُ كتابَ القانونِ لابن سينا عن ظهرِ قلب، ولهذا فقد لُقبتُ بابنِ سينا عصري، من حيثُ مركزي العلميُّ، وتمكُّني، في الطبِّ، كما كنتُ أحفظُ مؤلفاتِ جالينوس، وأبقراط، وديسقوريدوس.
لقد كنتُ أعرِفُ قدر نفسي، وأعرفُ إمكاناتي العلميّة، وإمكاناتِ غيري أيضاً، ولهذا فقد كنتُ أصدُرُ، في انتقادي لجالينوس وابن سينا، عن ثقةٍ وموضوعيّة، رغم المكانةِ، بل القداسةِ التي كان يحتلُّها هذان العالِمان في عقولِ الأجيالِ المختلفةِ ووجدانهم. وقد دفعتني هذه الثقةُ إلى القولِ عن كتبي هذه العبارةَ الخالدة: لو لم أكن واثقاً من أنَّ كتبي ستعيشُ مدَّةَ عشرةِ آلافِ سنة لما كتبتُها!!!
ومن هذا المنطلق، فقد قيل عنّي: لم يوجد على وجه الأرضِ قاطبةً مثيلٌ لي، ومنذُ ابن سينا، لم يوجد أحدٌ في عظمتي. بل إن بعضَ العلماء كان يجعلني فوقَ ابن سينا.
وأودُّ، في نهاية الحديثِ عن مكانتي العلميّة، أن أُشير إلى أنَّ عملي في الطب، وهو عملٌ أحببته جداً، وخصصتُ له جُلَّ وقتي، لم يكن كلَّ ما عملتُ به، فقد اهتممتُ، علاوةً على ذلك، بعلومِ اللغةِ، والفقهِ، والفلسفةِ، والعلوم. وكانت لي فيها كتبٌ ومؤلفاتٌ، وألقيتُ فيها المحاضرات.
نهايةُ رحلة العمر
ولدتُ، كما ذكرتُ في البداية، في مدينةِ دمشقَ، وفيها نشأتُ وتعلمتُ، ثم انتقلتُ منها إلى القاهرة، هذه المدينةِ العظيمة، التي شهدت تفجُّرَ عبقريتي ونبوغي الطِّبي، وشهدت أيضاً وصولي إلى قمةِ المجدِ والثَّراء.
لقد ابتنيتُ داراً فخمةً بالقاهرة، وفرشتُها بالرُّخام، ولكنَّني قطعتُ رحلة عمري وحيداً أعزب، فلم أتزوج، لأنَّني كنتُ أشعر، بأن دراساتي وتجاربي وتأليفي، تحتاجُ مني إلى كلِّ الوقت، بحيثُ لا تسمحُ لي بالتفرُّغِ لشئونِ العائلة والأسرة.
ولهذا فقد خصّصتُ كلَّ وقتي للعلمِ، والكتابةِ، والمعالجةِ، ممَّا أدَّى إلى نُحولِ جسمي ورِقَّته، إلى أن هاجمني المرضُ في أُخرياتِ عمري، واستمر هذا المرضُ، في حِدَّته، ستةَ أيامٍ متتاليةٍ، وصفَ ليَ الأطباءُ خلالها العلاجَ بالخمر، فرفضتُ ذلك قائلاً: لا أُريدُ أن ألقى وجه الله الكريم، وفي جسمي شيءٌ من خمر.
وعندما أدركتُ، بحكمِ علمي ورايتي في الطّبِّ، أن المنيةَ آتيةٌ لا محالة، وقفتُ داري ومكتبتي القيمةَ على المستشفى العضديّ بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القِعدةِ سنة 687ه، فاضت روحي إلى بارئها عزَّ وجل، ولي من العمرِ ثمانون عاماً، وعلى ثغري ابتسامةٌ عريضة، لأنَّني قدمتُ للأجيال من بعدي ثروةً علميةً أعتزُّ بها. ومن هذه الكتب والمؤلفات:
*كتاب المهذَّب في الكحل، وهو خاصٌّ في طبِّ العيون.
*كتاب المختار من الأغذية، وهو خاصٌ في علمِ الحِمية
*كتاب شرح فصول أبقراط
*كتاب شرح تقدمة المعرفة لأبقراط
*كتاب مسائل حنين ابن اسحق
*كتاب شرح الهداية في الطبِّ لابن سينا
*كتاب الموجز في الطبِّ، وهو موجز لكتاب القانون لابن سينا
*كتاب شرح قانون ابن سينا، وفيه انتقدتُ أقوالَ ابن سينا، وخصوصاً وصفه العروق الموصلة بين الرئة والقلب، ووظائفها، ووظيفة الرئتين
*كتاب شرح تشريح القانون، وفيه شرح الدوران الرئوي، والدورة الدموية الصغرى
*كتاب تفاسير العلل وأسباب الأمراض
*كتاب بغية الفِطن في علم البدن
*كتاب الشامل في الطبِّ، وهو كتاب موسوعيٌّ كبيرٌ جداً، وهو ما يزال، مثل بعض كتبي، مخطوطاً، وتوجد منه مخطوطةٌ في المكتبةِ الظاهريةِ بدمشق، وثلاثةُ مجلداتٍ مخطوطةٍ منه في جامعة ستانفورد الأمريكية
*كتاب الرسالة الكاملية في السيرة النبوية
*كتاب المختصر في علم أصول الحديث
*الورقات في المنطق، وغيرها كثير، بعضها مفقود