أنا معين توفيق بسيسو. وُلدْتُ في مدينةِ غزَّة، وعلى وجه التّحديدِ في حيِّ الشُّجاعيَّةِ، في العاشرِ من شهرِ تشرينِ الأوّلِ سنة 1928م. تلقَّيتُ علوميَ الإبتدائيَّة في المدارسِ الحكوميَّةِ، وعندما أُعلنَ الإضرابُ العامُّ والشَّاملُ في فلسطينَ سنة 1936م، كنْتُ أشارِكُ، وأنا طفلٌ صغيرٌ، طلابَ المدارسِ في مدينةِ غزّةِ، في مقاتلةِ قواتِ البوليس البريطانيِّ، وإلقاءِ الحِجَارةِ عليهم، وسدِّ الطُرُقِ والمنافذ أمام آليّاتهم.
وفي سنة 1943م، التحقتُ بكليَّةِ غزّة، وتعرَّفْتُ فيها إلى الشَّاعرِ المعروفِ سعيد العيسى، الذي كان مُدرَِّساً للُّغةِ العربيَّة وآدابها، وقد أحسَسْتُ نحو هذا الشَّاعرِ الأُستاذِ بالارتياح، فأطلعتُهُ على ما أخفيهِ في نفسي، وما كنتُ أتردَّدُ في إعلانِهِ للنَّاسِ من شاعريَّةٍ كامنةٍ، وشعرٍ يتدفَّق.
وفي سنة 1944م، بدأتُ بنشرِ قصائدي الوطنيَّةِ، في صحفِ الإتّحادِ والحرِّيَّةِ، معَ الشَّاعرِ الفلسطينيِّ المرحوم عبد الكريم الكرمي المعروف بأبي سلمى، كما بدأتُ المشاركةَ في المهرجاناتِ التي كان يُقيمها مؤتمرُ العُمّالِ العربِ، وعُصبةُ التحررِ الوطنيِّ. وفي سنة 1948م، أنهيتُ دراستي في كلية غزَّة، وسافرتُ إلى القاهرةِ لمتابعةِ نضالي مع القوى الوطنيّة والقوميّة في مصر.
وفي سنة 1952م، وبعد تخرُّجي في قسمِ الصّحافةِ في الجامعةِ الأمريكيَّةِ بالقاهرة، عملتُ مُدرِّساً في العراق، غير أنَّني طُردْتُ من هذا القُطرِ العربيِّ الشَّقيق، قبلَ أن أنهي السَّنةَ الدِّراسيَّةَ الأولى، وذلك بسبب صلتي الوثيقةِ بالحركَةِ الوطنيَّةِ، وقيادةِ الحركةِ التقدُّميَّة، ولم يسمح لي بالعودةِ إلى بلاد الرافدينِ إلا بعد ثورةِ 14 تموز سنة 1958م.
وفي سنة 1953م عملتُ مُدرِّساً في مدارسِ وكالةِ الغوثِ الدّوليّةِ في غزة، وأصبحْتُ، سنة 1955م، مديراً لمدرسةِ مُخيّم جباليا. ولقد شاركتُ في العملِ الوطنيِّ طيلة الوقت، الأمرُ الذي أدّى إلى إعتقالي وحبسي مرَّاتٍ كثيرةٍ.
تزوَّجتُ من صهباء البربري، ورزقتُ منها بثلاثةِ أبناء هم: توفيق، وريموندا، وراحيل.
نضالي
فتحتُ عينيَّ، وأنا في مقتبلِ العُمر، على الإنتدابِ البريطانيِّ، وهو يحتلُّ بلادي، كما أنَّني واجَهْتُ، منذُ بدايةِ رحلةِ العمر، سطوةَ هذا الإنتدابِ، وهو ينكِّلُ بأبناء وطني، الذين أعلنوا الإضرابَ العامَّ الشّاملَ في وجههِ، ولقد شاركتُ في ذلك الإضرابِ، وأنا طفلٌ صغيرٌ، وكنتُ أُسهمُ، في ذلك النِّضال كما ذكرْتُ سابقاً، بإلقاء الحجارةِ على قوّاتِ البوليس البريطاني، وسدِّ الطُرقِ والمنافذِ أمامَ حركة آليَّاته.
وكنتُ أواصلُ رحلةَ النِّضالِ كلَّما تقدمَ بيَ السِّن، وامتدَّ بي العمر، وتعرَّضْتُ، نتيجةً لذلك، إلى السِّجنِ والإعتقالِ مرَّاتٍ عديدةٍ في غزَّة، والعراقِ، ومصرَ. وتعرَّفتُ، خلالَ فتراتِ اعتقالي المختلفة، على كثيرٍ من المناضلينَ الفلسطينيينَ والعربِ، كما كان الإعتقالُ، بالنسبةِ لي، فترةً للقراءةِ والثَّقافةِ والاطّلاعِ على مختلفِ التيّاراتِ الفكريّةِ.
ولكنَّ الذي أودُّ أن أُسجِّله هنا، هو أنَّني توجَّهتُ، بعد الإفراجِ عنِّي من سجنِ الواحات سنة 1963م، إلى بيروت، وظللتُ فيها حتّى حصارها سنة 1982م.
لقد كانت بيروتُ حاضنةَ الثَّقافةِ العربيَّة، واحتضنت كُتَّابَها وأُدباءَها، لقد احتضنتني، واحتضنت محمود درويش، وماجد أبو شرار، وعزّ الدّين المناصرة، ورشاد أبو شاور، وأحمد دحبور وغيرهم.
ثقافتي وإنتاجي الأدبي
تلقَّيتُ تعليمي في كليّة غزّة، وقد تأثَّرتُ، في هذه الكليّةِ كما ذكرْتُ سابقاً، بالشّاعرِ سعيد العيسى، وعلى يد هذا الشَّاعرِ الكبيرِ، تعلَّمتُ أنَّ الشِّعْرَ ليس مُجرَّدَ وزنٍ وقافيةٍ، وإنّما هو تعبيرٌ عن تجربةٍ، وتجسيدٌ لوجدانٍ، وتفجيرٌ لطاقةٍ، وأنَّ الشِّعرَ الحقيقيَّ لا يتسنَّى لصاحبه إلا إذا كان مُسلّحاً بفكرٍ ثوريٍّ حقيقيٍّ، وثقافةٍ نوعيّةٍ متألِّقةٍ.
وتأثَّرتُ أيضاً بالشَّاعرِ الفلسطيني الكبير أبي سلمى، كما كان لدراستي في قسم الصَّحافة، في الجامعةِ الأمريكيَّة بالقاهرة، تأثيرٌ كبيرٌ على تشكلِ شخصيَّتي الثَّقافيَّةِ.
والحقيقةُ أنَّ المعاناةَ العميقةَ، التي عشتُها في وطني، منذُ نعومةِ أظافري، كانت الوقودَ التي حرّكََ في أعماقي نارَ الفكرِ والثَّورةِ
*وكذلك بعثتُ قصيدةَ إلى شقيقتي الوحيدة "سهير" قلتُ فيها:
يا سهير
أنا في المنفى أُغنِّي للقطار
وأُغنّي للمحطه
أيّ هزَّه
حينما تُومضُ في عينيَّ غزَّه
حينما تلمعُ أصواتُ الرِّفاق
حينما تنمو كغاب من بروق ورياح
مكانتي الأدبية
لقد أُسندَتْ إليَّ مناصبُ أدبيةٌ مختلفةً، ومهمَّاتٌ نضاليةٌ كثيرةٌ؛ فقد كنتُ عُضواً في المجلسِ الوطنيِّ الفلسطيني، وعضواً في الأمانة العامّةِ لاتِّحادِ الكُتَّابِ والصَّحفيينَ الفلسطينيّين. كما ربطتني بكتابِ الإتِّحادِ السوفييتي(سابقاً) علاقاتٌ حميمةٌ، وقد تمثَّلَ ذلك في المشاركاتِ المختلفةِ في اجتماعاتِ اتّحادِ كُتاب آسيا وإفريقيا.
ولنستمع إلى ما قاله صديقي يحيى يخلف عنّي: لقد رافقتُ معين بسيسو في إحدى الزّياراتِ لعددٍ من الجمهوريّاتِ الآسيويّةِ، وكان الجمهورُ يحتفي بالحرارةِ نفسها التي كان يجدُها في جمهورِ بيروتَ، وصيدا، وصور، بل إنَّه تمتَّعَ هناك بشهرةٍ لا تقلُّ عن شهرةِ "سوفرانوف"، وحمزاتوف، وايتماتوف. وقد ترُجمت معظمُ أعمالهِ إلى اللُّغةِ الروسيَّةِ، ولغاتِ الجمهوريَّاتِ الإسلاميَّةِ والآسيويَّةِ.
نهايةُ رحلة العمر
عشتُ ما يقاربُ سبعةً وخمسين عاماً، عشتُها مُناضلاً بالموقف، ومناضلاً بالكلمةِ، كنتُ أكتبُ قصائدي بشموخٍ وطنيٍّ، وكبرياء وجدانيٍّ، كان أصدقائي يهرعونَ نحوي كلَّما كتبتُ قصيدةً جديدةً، فأقرؤها أمامهم، ثم أنظر إلى ملامحهم، لأقرأ، من خلالِ قسماتِ وجوههم، تأثيرها عليهم، كنتُ، كلَّما كتبتُ قصيدة، أرتدي أفخرَ ما لديَّ من ثيابٍ، وأحرصُ على الأناقةِ، لكي أُنافسَ قصيدتي في الحسنِ والجمالِ.
عشتُ سنواتَ عمرٍ ليست بالطويلةِ، ولكنَّني تجوَّلتُ، خلالها، في كثيرٍ من البلدانِ العربيّةِ والأجنبيّةِ، وما كان ما يدورُ بخلدي أن المنيَّةً كانت تنتظرُني بعيداً عن أرضِ الوطنِ، في غرفةٍ من غرفِ أحدِ الفنادقِ الإنجليزيَّةِ في مدينةِ لندنَ، وذلك في الرَّابعِ والعشرينَ من شهرِ كانون الثَّاني سنة 1984م.
لقد شكلَ موتي هزةً كبيرةً في وطني فلسطينَ، ورثاني كثيرٌ من الشُّعراءِ والقادةِ، وكانت أبلغَ كلماتِ الرثاءِ تلكَ القصيدةُ التي رثاني فيها الصديقُ الشاعرُ سميح القاسم الذي لم يُصدِّق أَّنني قد مِتُّ، فقال إنَّني تماوتتُ ولم أمت، وجاء ذلك في قصيدةٍ بعنوان
" أنت تدري كم نُحبُّك، إلى المتماوت مُعين":
كوفيّةٌ في الرّيحِ تخفُق
خصلةٌ شعركَ الوثنيّ
مشبعةٌ بملحِ البحرِ تخفق
عندليبُ الرّوحِ يخفق
أم من قُضبانِ صدرك
ضاقَ بالإعصار
أنتَ مُحاصر
وعلى أيَّ حالٍ، فقد انتهت رحلةُ العمرِ، كما أرادَ اللهُ عزَّ وجل، وعزائي عن كلِّ ما حدثَ لي، أنَّني تركتُ ورائي أعمالاً أدبيّةً ونضاليّةً كثيرةً، أهمُّها: