أنا عبدُ الكريم بنُ الشّيخِ سعيد الكرمي، وُلِدْتُ، وأنا واحدٌ من بين ثمانِيَةِ إخْوَةٍ، في مدينة طولكرم في فلسطينَ سنة 1909م، كان والدي الشيخُ سعيد، رحمَهُ الله، أحَدَ علماءِ الشَّريعةِ، كما كانَ شاعِراً، وَكاتباً، وَخَطيباً، وَقَدِ اشْتغلَ مَنْصِبَ مفتي قضاء طولكرم. إشتهرتْ عائلتي بالعلمِ والأدبِ والثَّقافةِ، وكانَ لوالدي، وعائلتي أيضاً، دورٌ بارزٌ، وفضلٌ لا يُنْكَرُ في توجيهي، وَرِعايتي، وتكوينِ شخصيَّتي الأدبيَّة.
لمْ تقتصرْ دراستي وإقامتي أيْضاً، على مدينَةِ واحدةٍ، أو بَلَدٍ واحدٍ فقط، وإنَّما تنقَّلتُ من مدينةٍ إلى أُخرى، ومن بلدٍ إلى آخر، وأستطيعُ القول: إن مُدنَ طولكرم، وعمَّانَ، ودمشقَ كانت الثالوثَ الذي كُنْتُ أتنقَّلُ بين زواياهُ طلباً للعلمِ والإقامةِ مع أسرتي. فقد دَرَسْتُ في مدارسِ هذه المدنِ الثَّلاثِ، وَحَصَلْتُ، في النِّهايةِ، على شهادةِ البكالوريا السُّوريَّةِ، ودارِ المعلِّمينَ بدمشقَ في حزيران سنة 1927م.
لم تكنْ حياتي وحياةُ أسرتي هادئةً؛ فقد نشأتُ وسَطَ هُمومٍ اختزنتُها في أعماقي، وحملتُها على كاهلي طيلةَ سنوات العمرِ. فقد سُجنَ والدي عندما كنتُ طفلاً لا أتجاوَزُ سِنَّ الخامسة، وأمضى فيه مدةَ سنتين وسبعةِ أشهر، عاشَتْ أسرتي، في أثنائِها محنَةً عصيبَةًً قاسيَةً. وبعدَ أن أُفرجَ عن والدي، إنتقلت الأسرةُ إلى دمشقَ، وفيها تابَعْتُ دِراستي الإبتدائيَّةَ. بَيْدَ أنَّ أُمِّي مرضَتْ، في دمشقَ، مَرَضاً شديداً، ممَّا إضطرها إلى العودةِ، وأنا بصُحْبَتِها، إلى المدينةِ الأُمِّ طولكرم، حيثُ لبَّت نداءَ ربِّها، وتركتْني وحيداً أُعاني مرارةَ الحِرْمانِ والوِحْدَةِ معاً.
إنتقلتُ، بعد ذلك، إلى دمشقَ، غير أنَّ مُقامي فيها لم يستمرَّ، حيث كنتُ أنتقلُ، بين الفينةِ والأخرى، بينها وبين عمَّانَ. ولم يتسنَّ لي إكمالُ تحصيلي الجامعيِّ في دمشقَ، فقفلتُ عائداً إلى مدينةِ القدسِ، وفيها إنتسبتُ إلى معهدِ الحقوقِ.
كُنيتي التي إشتهرتُ بها
كُنِيتُ، منذُ مطلعِ شبابي، بأبي سلمى، وبهذه الكُنْيَةِ عُرِفْتُ، واشْتَهَرْتُ، بل إن قلَّةً من النَّاسِ من كانوا يعرفونَ اسمي عبد الكريم، ويعودُ سبب هذه الكنيةِ إلى أيَّامِ الدراسةِ عندما كنتُ طالباً بمدرسة "عنبر" بدمشقَ سنة 1924م، وكنتُ يومها شاباً في السَّابعةَ عشرةَ من العُمر. وقد شاءَ ليَ القدر أن ألتقي بفتاة إسمها "سلمى"، فأحْبَبْتُها، وتغزَّلْتُ بها شعراً، وعلمَ بذلك بعض أساتذتي في المدرسَةِ، ومنهم الأستاذُ سليمُ الجندي، والأستاذُ عبدُ القادر المبارك، والأستاذُ محمدُ الداودي، واستمعوا منِّي إلى أوَّلِ غزلٍ قلتُهُ في تلك الحَسْناء، وهو قولي:
سلمى انظري نحوي فقلبي يخفقُ لما يشيرُ إلى طرفك أُطرِقُ
فَشَجَّعَني هؤلاء الأساتذةُ وغيرُهم على المضيِّ في النّظمِ، والإستمرارِ في قول الشِّعر. ومنذ ذلك الوقتِ، أخذَ رفاقي في المدرسةِ ينادونَني:
يا حبيبَ سَلمى، يا أبا سَلمى،
بلْ إنَّ أستاذي الداوَّدي تََعَوَّدَ، بعد ذلك، على اسْتِدعائي قائلاً: يا أبا سلمى، تعالَ أسمِعنا ماذا نظمت؟
لقد تَعَوَّدْتُ على هذا اللَّقبِ الشِّعريِّ، وعلى هذِهِ الكُنْيَةِ، وبدأتُ أنشُرُ قصائدي، في صُحُفِ دمشقَ، وفي مجلَّةِ الزَّهراءِ بالقاهرةِ، بتوقيع" أبو سلمى"، هذا التَّوقيعُ الذي لازَمَنِي، وعُرِفْتُ بِهِ أكثَرَ من اسْمي الحقيقيِّ حتى نهايةِ العمرِ.
ثقافتي الأدبيَّة
تَلَقَّيْتُ مبادئَ الفكرِ، وَنَسَمَاتِ الثَّقافةِ الأولى، منذُ نُعومَةِ أظافري، على يدِ والدي الشَّيخِ سعيد الكرمي رحمَهُ اللهُ، وغيرُهُ من أبناء أسرتي. وَكَمَا كان لعائلتي دورٌ كبيرٌ في فتحِ عوالمِ الثَّقافةِ أمامي، فقد كانَ للمدارس والمعاهد، التي نَهَلْتُ فيها العلْمَ والأدَبَ، وللأسَاتذةِ، الذين تَتَلْمَذْتُ على أيديهم ، الفضلُ الأكبرُ في وُلوجي مَيادينَ الأدَبِ، وَسَاحاتِ الفكرِ. وأذكرُ من هؤلاء الأساتذةِ، على سبيل المثالِ، خليل السَّكاكيني، ومحمد إسعاف النشاشيبي، وسليم الجندي، ومحمَّد البزم، ومحمد الداودي، وغيرهم من الأُدباء والمفكِّرينَ، الذين رأوْا فيََّ تربةً خِصبةً لنبتٍ أصيلٍ يحبُّ المطالعةَ، ويهوي الكتابةَ، وقبل ذلكَ وبعدهُ، يعشقُ الشِّعرَ.
ولمْ تقتصرْ مطالعاتي على الفكر العربيِّ، والثَّقافةِ العربيَّةِ، وإنَّما أُتيحت لي الفرصةُ للإطلاع على الثَّقافةِ الغربيَّةِ بعامَّةٍ، والثَّقافةِ الفرنسيَّةِ بخاصَّةٍ.
لقد بدأتُ رحلتي مع الثَّقافةِ الفرنسيَّةِ الغنيَّةِ والثَّريَّةِ، بإتقانِ اللُّغةِ الفرنسيَّةِ، وَمطالَعَةِ الأدَبِ الفرنسيِّ، وضلا سيَّما جانب الشِّعرِ والقصَّةِ منه، وساعدتني في ذلك زَوجتي" رُقيََّة"، التي تتقِنُ اللُّغةَ الفرنسيَّةَ وتُجيدها على نحوٍ تامٍّ. وَتَجلَّتْ براعتي في هذه اللغةِ، وهُيامي بأدبها، في أشياءَ كثيرةٍ، أذكر منها الآن، على نحوٍ سريعٍ، ترجمتي لقصيدةِ
" أذكريني" للشَّاعرِ الفرنسي ألفرد دي موسيه.
وكما انطلقْتُ في بَحرِ الثَّقافةِ إنطلاقةً عالميَّةً، فقد كانت لي، في أثناء ذلك، إنطلاقةٌ عربيَّةٌ لا تقلُّ شأناً عن تلك الإنطلاقةِ العالميَّةِ. لقدِ التقيْتُ، في رحلةِ حياتي، بالكثيرِ من الأدباءِ العربِ الذينَ كانَ لهم، دونَما شَكٍّ، تأثيرٌ واضحٌ في اتِّجاهاتي وميولي الأدبيَّةِ، وأذكُرُ، من هؤلاءِ الأدَباءِ والمفكِّرينَ، الأديبَ الكبيرَ إبراهيمَ عبد القادر المازني، والدّكتور زكي مُبارك، وأحمد لطفي السَّيدِّ وَغَيرهم.
لقد أسْهَمَتْ قراءاتي وَمُطالعاتي المختلفةُ، وأسْهَمَتْ تنقُّلاتي ولقاءاتي المتنوعةُ- أسْهَمَتْ في رَسمِ شخصيتي بطابعٍ خاصٍّ. كما أسْهمَ في طبعِ أدبي وشعري بميسمٍ متميزٍ.
المَناَصِبُ التي شَغَلْتُها
شغلتُ، بعدَ حصولي على درجةِ البكالوريا السُّوريَّة، عِدَّةِ مناصِبَ، وَتَقَلَّبْتُ في عِدَّةِ وظائِفَ، وكانت عزَّةُ النفسِ، وإباءُ الهمَّةِ، تدفعُني، على نَحوٍ مستمرٍّ، إلى البَحْثِ عن عملٍ يتَّسِمُ بِصِفَتين هما: علوُّ المنزلةِ، وغزارةُ العطاءِ. وعلى هدى من هذا التَّصورِ، خُضْتُ كفاحي وَنضالي.
*لقد عملتُ في سلكِ التَّدريسِ في مدينةِ القدسِ،وقدمتُ لأبناءِ وطني خُلاصةُ ما حصلتُ عليه من علمٍ، وَصَفوَة ما اطَّلَعْتُ عليه من فكرٍ.
وَعَمِلْتُ في الإذاعَةِ الفلسطينيَّةِ، وزامَلْتُ فيها شاعرَ فلسطينَ الكبيرَ المرحومَ إبراهيم طوقان. وفي هذه الإذاعَةِ، صَدَحْتُ بأناشيدي الوطنيَّةِ، وَغَنَّيْتُ لوطني أعذَبَ قصائدي.
*وعَملتُ في سلكِ القضاءِ، حيثُ افْتَتَحْتُ في مدينةِ حيفا مكتباً للمُحاماةِ، وَظَلَلْتُ أعملُ في ساحةِ العدالةِ والمحاكم حتَّى حلولِ النَّكبة. وفي حيفا التقيتُ بصديقِ عُمري"حنَّا نقارة"، الذي كان رئيساً للنَّادي الذي كان يقيمُ الكثيرَ من النَّشاطاتِ الأدبيَّةِ والاجتماعيَّةِ الرِّياديَّةِ في فلسطينَ.
*وعندما سَكَنْتُ في دِمَشْقَ، عَمِلْتُ مدرِّساً، ومديراً للتَّوجيهِ في وزارةِ الإعلام، ثم محامياً.
*وقد تمَّ إختياري، نائباً لرئيسِ اللَّجنةِ الفلسطينيَّةِ للسِّلمِ والتَّضامنِ التي كان مقرُّها في القاهرة.
*وفي العام 1978م مَنَحَنِي إتِّحادُ كُتَّابِ آسيا وإفريقيا جائزةَ "اللوتس" العالميَّة للآداب،
وجاء في قرارِ هيئةِ منحِ الجائزةِ ما نصُّهُ:
"إنَّ الشَّاعرَ الفلسطيني" أبو سلمى" قد عاشَ من أجلِ قضيَّةِ شعبِهِ ووطنِهِ، وكرََّسَ شعرَهُ صوتاً صافياً ومخلِصاً لقضايا وطنِهِ المُعذَّبِ فلسطينَ".
*وفي العام 1979م إنتخبتُ رئيساً لإتحادِ الكُتَّابِ والصَّحفيينَ الفلسطينيِّينَ.
شاعريَّتي
نَظَمْتُ الشِّعْرَ في كثيرٍ من الموضوعاتِ والأغراضِ الشِّعريَّةِ المَعروفَةِ. غير أنَّ الشِّعرَ الوطنيَّ، والسِّياسيَّ، والنِّضاليَّ قد طغى على غيرِهِ من أغراض الشِّعرِ بسببِ الظُّروفِ الأليمَةِ التي كانَ يمرُّ بها وطني آنذاك.
*لقد طُفْتُ في الآفاقِ حاملاً، بين أضلعي، نكبَةََ وَطني، وحَسْرةَ قومي، فأنا القائل:
ريـشـتـي فـيحـفـيـفها جهشةُ الأقصى على أهلهِ ونوح الأذان
*وعلى الرَّغمِ من سعةِ مِساحةِ الشِّعرِ الوطنيِّ والنضالي في ديواني، إلاّ أنَّ ذلك الديوانَ قد إتّسعَ لأشعاري الغزَليَّةِ، والرِّثائيةِ، وأشعاري في الإغترابِ والحنينِ وغيرِها.
لقد عرفتُ كيف يكونُ الهوى والعِشقُ للمرأةِ الحبيبَةِ، كما عرفْتُ كيفَ يكونُ الهوى والعِشقُ للوطنِ الحبيبِ، وعرفتُ، في الوقتِ نفسِهِ، الطَّريقَ الذي يصلُ بينهما، فسارَ على ذلك قلبي، وهو مفعمٌ بالعذابِ، فأنا القائلُ في قصيدتي "طيف الحبيبة"
طيفُ الحبيبةِ زارني يا مرحبا يا طيفُ ما أحلى اللقاءَ وأعذبا
أسعدتَ قلباًبالفُراقِ تعذبا
أجَبتَ في حُلمِ المنامِ أمانيا وأثَرتَ من بعدِ السُكونِحنانيا
فشكرتُ من بعدِ الشكاة زمانيا
بعد النوى يحلوا الهوى
ماالعُمرُ...ماطيبُ الحياة...لولا الأمل
نهايةُ رحلة العمر
عِشْتُ ما يقاربُ إحدى وسبعين سنةً، قَضَيتُهَا وأنا أطلُبُ العِلْمَ، وأرتحِلُ من مكانٍ إلى مكانٍ. لقد عملتُ مُدرِّساً، ومذيعاً، ومُحَرِّراً، ومحامياً، لكنني كنتُ، في كلِّ أعمالي، شاعراً ومُناضلاً، وبقيتُ على هذا الحالِ، إلى أن لفظتُ أنفاسيَ الأخيرةَ على إثرِ عمليةٍ جراحيَّةٍ أُجريت لي في أحدِ مُستشفياتِ واشنطن، وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ سنة 1980م.
لقد وَدَّعْتُ هذِهِ الحياةَ، بعد أن تَرَكْتُ، خلفي لأبناءِ وطني وأُمَّتي، الكثيرَ من الأعمالِ الأدبيَّةِ، والدَّواوين الشعريةِ، أذكر منها:
*المشرَّد، وقد صدر في دمشق سنة 1953م.
*أغنيات بلادي، وقد صدر في دمشق سنة 1959م.
*أغاني الأطفال، وقد صدرَ في دمشق سنة 1964م.
*من فلسطينَ ريشتي، وقد صدر في بيروت سنة 1970م.
*وفي العام 1978م، أصدرَ الإتحادُ العامُّ للكُتابِ والصَّحفيينَ الفلسطينيينَ، بالتعاونِ معَ دارِ العودةِ في بيروت، الأعمال الكاملة لأشعاري.
*كما كانت لي أثارٌ أدبيَّةٌ نثريَّةٌ منها:
*كفاح عرب فلسطين، وقد صدر في دمشق سنة 1964م.
*أحمد شاكر الكرمي، مختارات من آثاره، وقد صدر في دمشق سنة 1964م.
*الشّيخ سعيد الكرمي، سيرته العلميَّة والسِّياسيَّة، مختارات من آثاره، وقد صدر في دمشق سنة 1973م.
*ولي مسرحيةٌ عن المجاهد عزِّ الدين القسام، كتبَ مُقِّدمَتها الأديبُ المصريُّ المعروفُ إبراهيم المازني، ولكنَّ هذه المسرحيةَ ضاعت.