نشأتُ في أسرةٍ متديّنة؛ فوالدي الشّيخ محمود ابن الشّيخ عبد الحليم بن الشّيخ بن عبد الله، رحمهم الله جميعاً، كان عالماً بأصولِ الفقهِ الإسلاميِّ، فقد تلقَّى علومَهُ في الأزهرِ الشَّريف.
عرفتُ اليُتْمَ وأنا في سنٍّ مبكرَةٍ، فقد ماتَ والدي، وأنا في سنِّ السَّادسَةِ، فسَدََّدَتْ وفاتُه لي وللعائلةِ أيضاً ضربةً شديدةً، ولكنَّ ذلك لم يَحُلْ دون مواصلةِ الحياة، فدخلتُ المدرسةَ وأنا في سنِّ السَّابعةِ، وأنهيتُ دراستي الابتدائيَّة في مدارسِ عَنَبْتا وَطولكرم، ثمَّ انتقلتُ، لإتمامِ دراستي الثَّانويّة، إلى مدينةِ نابلس، فدخلتُ كليَّةَ النَّجاح الوطنيَّة( جامعة النَّجاح الوطنية الآن)، وفيها جمعتُ بين التَّفوق العلميِّ والسُّلوكيِّ، فاستحقَقْتُ لذلك شهادة "الوثيقة"، التي تمكَّن حامِلها من دخولِ الجامعةِ الأمريكيَّةِ ببيروت دونما امتحانِ قَبولٍ، كما تؤهِّلُه أيضاً لدخولِ الجامعاتِ المِصريَّةِ والبريطانيَّة، ولكنَّ ظروفي، آنذاك، لم تسمحْ لي بمواصلةِ الدّراسَةِ الجامعيّةِ.
بدأتُ حياتي العمليَّةَ بدخولِ مدرسةِ البوليس في بيتَ لحم، وَتَخَرََّجْتُ فيها، وعملتُ شرطيّاً في مدينةِ النَّاصرةِ، ولكنَّني وجدتُ أنَّ هذِهِ المهنةَ لم تكن موافقةً لميولي واتِّجاهاتي في ذلك الوقت، نظراً لأنَّ قواتِ الشّرطةِ، في ذلك العهدِ، كانت تُستخدَمُ لصدِّ الجماهيرِ الفلسطينيَّةِ التي كانت تخوضُ انتفاضةً عارِمَةً ضدَّ الإستعمارِ الإنجليزيِّ، فاستقلْتُ من عملي، بعد أن رفضْتُ الإنْصياعَ لأوامرِ سُلطةِ الإنتدابِ.
وبعد ذلك، انْضمَمْتُ إلى الهيئةِ التَّدريسيَّةِ في كليَّةِ النَّجاحِ الوطنيَّةِ، ومارَسْتُ التَّدريسَ لمدَّةِ أربعِ سنواتٍ، كنتُ أُذكي، خلالها، في الطَّلبةِ الرُّوحَ الوطنيَّةَ، والرُّوحَ الجهاديَّة ضِدَّ الانتدابِ الإنجليزيِّ، وَظَلَلْتُ على هذا الحالِ، حتّى اشتعلت الثَّورةُ سنة 1936م، فاستقلتُ من عملي في كليَّةِ النجاح، والتحقتُ بكتائبِ المجاهدينَ تحتَ قيادةِ البطلِ المجاهدِ عبد الرّحيم الحاجُ محمد، حتّى توقفت الثورةُ سنة 1939م.
وعلى أثر ذلك، عَمدَت السّلطاتُ البريطانيَّةُ إلى اضِّطهادي ومطاردتي، ممَّا دفعني إلى مغادرةِ الوَطنِ إلى العراق، حيثُ عملتُ في التَّدريس، كما اغتنمتُ الفرصةَ والتحقتُ بالكلّيّةِ الحربيّةِ، فتخرَّجْتُ فيها حاملاً رتبةَ ملازم.
عُدْتُ بعدَ ثلاثِ سنواتٍ إلى أرضِ الوطن، فاستدعتني كليّةُ النَّجاحِ الوطنيَّة مرَّةً أُخرى لأُدَرِّسَ فيها الأدَبَ العربيَّ، وبقيتُ على هذا الحال، حتى قامتِ الحربُ سنة 1948م، فانخرطْتُ في صفوف المجاهدين الفلسطينيّين، لأُدافعَ عن الأرضِ والأهل، حتّى كرَّمني اللهُ بالشّهادةِ في معركةِ الشَّجرةِ في الثالثَ عشرَ من شهرِ تموز عام 1948م.
شاعريتي وشعري
تَفَتَّحَتْ شاعريّتي، وموهبتي على النَّطمِ، مذ كنتُ تلميذاً صغيراً، في الصفِّ الرَّابعِ الإبتدائيِّ، وقد لَمَحَ أستاذي الشّيخُ عبدُ الرّحمن الخطيب، أستاذُ اللّغةِ العربيّةِ في مدرسةِ طولكرم آنذاك، هذه الموهبةَ الغضَّةَ، فحاول رعايَتها، وعملِ على تغذيتها.
ولكنَّ هذه الموهبةَ الشّاعريّةَ النّاشئةَ، وَجَدَتْ، في كليَّةِ النَّجاحِ الوطنيّةِ، التّربةَ الصّالحةَ للغرسِ الطَّيبِ، والمُناخَ الملائمَ للإزهارِ المُثمرِ، وكان ذلك عندما التقيتُ بأستاذي الشَّاعرِ الكبيرِ إبراهيم طوقان، الذي نمَّى فيَّ المَلكةَ الشّعريةَ، وغرسَ في نفسي حبَّ الجمالِ، وأوحى إليَّ بفنونِ القول.
وما كانت الموهبةُ وحدها، بكافيَةٍ لصناعةِ شاعر يقفُ على موعدٍ معَ وطنٍ يحتاجُ إليه مناضلاً بالسَّيفِ والقلمِ، وإنَّما أسْهمتِ الأحداثُ المأساويةُ الحزينةُ، التي كانت تمرُّ بها البلاد آنذاك، في إيقادِ جذوةِ الشِّعرِ المضطرمِ في أعماقي، فصاغت منّي شاعرَ الحربِ، وشاعرَ الحبِّ في آنٍ واحِدٍ.
نعم، لقد قلتُ الشِّعرَ في الحربِ، وذلك من أجل الوطن المُعذَّبِ الذي كان الانتدابُ الإنجليزيُّ يُضمِرُ لهُ السُّوءَ، وَيُبَيِّتُ لَهُ الشّرَّ.
وقلتُ الشِّعرَ في الحبِّ، وذلك من أجلِ الوطنِ المتطلِّعِ إلى يومِ الخلاصِ، والحريَّةِ، والعدالةِ.
نعم، لقد حَمَلْتُ في إحدى يديَّ البندقيةَ، لأُدافعَ عن الأرضِ والعِرض، وحملتُ في اليدِ الأخرى القيثارة، لأعزفَ عليها ألحانَ الألمِ من الواقعِ، والأملِ في المستقبلِ.
*قلتُ الشِّعرَ، وهتفتُ به عالياً، فأصغى الوطنُ لنشيدي، وردَّدَ الأهلُ قصيدي، وَمَن مِن أهلِ فلسطينَ لا يُنشدُ قولي،:
سأحملُ روحي على راحَتي
وألقي بها في مهاوي الرَّدى
فإمّا حياةٌ تسرُّ الصَّديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العِدى
ونفسُ الشَّريف لها غايتان
ورود المنايا ونيلُالمنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن
مخوف الجناب حرام الحمى
لعمرك هذا مماتُ الرِّجال
ومن رام موتاً شريفاً فذا
أخوفاً وعندي تهونُ الحياة
وذُلاّ وإنّي لربّالإبا
بقلبي سأرمي وجوه العداة
فقلبي حديدٌ وناري لَظى
وأحمي حياضي بحدّالحسام
فيعلم قومي أنّي الفتى
ومن يزر قبري يقرأ البيت الأوّل:
سأحملُ روحي على راحَتي وألقي بها في مهاوي الرَّدى
*ومن شعري أيضاً، هذه الأبياتُ التي قُلتُها ضمنَ قصيدةٍ لي بعنوان"نجم السّعود"، وألقيتُها في قريتي عنبتا بين يدي الأمير سعود بن عبد العزيز، سنة 1935م في أثناء زيارته لفلسطين:
نجم السّعود وفي جبينك مطلعه
أنَّى توجه ركبُ عزك يتبعُه
سهلا وطئتَ ولو نزلتَ بمحملٍ
يوماً لأمرعَ من نزولك بلقعُه
والقوم قومك يا أمير إذا النَّوى
فرقتهُ، آمال العروبة تجمعُه
مالوا إليك وكلُّ قلبٍ حبُّه
يحدو به شوقا إليك ويدفعُه
~*~*~*~*~*~
يا ذا الأمير أمام عينك شاعرٌ
ضُمّت على الشكوى المريرة أضلعُه
المسجد الأقصى أجئتَ تزوره
أم جئت من قبل الضِّياع تودِّعُه؟
ومن شعري الإنساني، هذه الأبياتُ التي قُلتُها تحت عنوان
"في رثاء حمّال"
قد عشتَ في النّاسِ غريباً وها
قد متَّ بين الناسِ موتَ الغريب
والنّاسُ مذ كانوا ذوي قسوةٍ
وليس للبائس فيهم نصيب
لو كنتَ في حبلك شناقهم
لولولوا حزناً وشقوا الجيوب
لكنك الحمّالُ لم يطمعوا فيك
ولم يخشوا اذاك الرّهيب
رغيفك الطّاهرُ غمسته
من عرقٍ ذاكٍ ودمعٍ صبيب
ما كنتَ سلاباً أخا غصبة
بل كنت ذا حقّ سليبٍ غصيب
نهاية رحلة العمر
حملتُ، طيلةَ خمسةٍ وثلاثينَ عاماً، روحي على راحتي، إستعداداً لإلقائها في مهاوي الرَّدى، وكان هدفي من هذه الدنيا هو الحياة التي تسرُّ الصديقَ، أو الموتُ الذي يغيظ العدى، وكنتُ أتذبذبُ، في حياتي، بين قطبين إثنين هما: قطبُ الأماني، وقطب المنايا.
ولكنَّ الروحَ لم تسترِحْ في رحلةِ الحياة، وإنَّما وجدت راحتَها تحت ظلالِ السّيوفِ، وهي تطلبُ الشّهادةَ في سبيلِ اللهِ، ومن أجل الوطن: وقد تحقّق لي ما أردتُ، وتحققَ لي ما كنتُ أتنبّأ به لنفسي، أوَ لستُ القائل:
لعمرُك إني أرى مصرعي
ولكن أغذُّ إليه الخُطى
أرى مقتلي دون حقّي السّليب
ودون بلادي هو المُبتغى
نعم، لقد استشهدتُ، وأنا في عمر الورودِ، في سنِّ الخامسةِ والثلاثينِ، في معركة الشّجرة، فسقطتُ جريحًا ونقلني الرّفاق للنّاصرة لتلقّي العلاج، ولكنّ الله دعاني إليهِ فلبّيتُ الدّعوة.