منْ أكونُ يا أطفالُ؟
ظفرتُ سنة 1964م، وبعد وفاةِ المرحومِ عباس العقاد،
بلقبِ أميرِ الشُّعراء.
وكنتُ أوّلَ من ترجمَ رباعيَّاتِ الخيَّامِ، من الفارسيّة،
إلى اللغةِ العربيَّةِ .
أنا أحمدُ. وُلِدْتُ في القاهرة، وعلى وجهِ التَّحديدِ،
في حيِِّ السَّيِّدة زينب الشّعبيِّ سنة 1892م.
نشأتُ في أُسْرَةٍ متواضِعَةٍ، فقد كان والدي، رحمه الله، عندما وُلدْتُ، طالباً في كليَّةِ القصرِ العيني بالقاهرة.
وعندما تَخَرَّج والدي، وأصبحَ طبيباً إنْتُدِبَ للعملِ بجزيرةِ "طاشيوز" القريبة من مدينةِ "قولة" بتركيا سنة 1899م، فاصْطَحَبَ الأسرةَ معه، وكان عمري آنذاك حوالي سبعِ سنوات.
مكثتُ مع الأسرةِ في طاشيوز مدة سنتين، عُدْتُ بَعدَها وَحدي إلى القاهرةِ، فأقمْتُ عنْدَ عمَّتي وَجَدِّي، الذي كانَ يحبُّني ويعطِفُ عَلَيََّ، ثمَّ التحقْتُ بالمدراسِ الإبتدائيَّة فالثّانويةِ، وَحَصَلتُ على شهادةِ البكالوريا من المدرسَةِ الخديويّةِ سنة 1911م.
وبعد ذلك، إلتحقتُ بكليَّةِ الحقوقِ، ولكنَّ ارْتفاعَ تكاليفِ الدِّراسةِ حَالَتْ دونَ مواصَلَةِ دِراستي، فَدَخَلْتُ مدرسةَ المعلِّمينَ العليا، وَتَخَرَّجْتُ فيها سنة 1914م، بعد أن عَرَفْتُ ألواناً من الأدبين العربيِّ والإنجليزيِّ.
دَخَلْتُ الحياةَ العلميَّةَ، فاشْتَغَلْتُ مُدرِّساً، ثم اختارتْني وزارةُ المعارفِ سنة 1922م، في بعثةٍ علميَّةٍ لدراسَةِ اللُّغاتِ الشَّرقيَّةِ في جامعة السوربون بفرنسا، فأتقنتُ، إلى جانبِ اللغةِ الفرنسيَّةِ، عدَّةَ لغاتٍ من بينِها اللغةَ الفارسيَّةُ، وكنتُ أوَّلَ من تَرْجَمََ رباعيَّاتِ الخيَّامِ، منْ تلْك اللُّغةِ، إلى اللُّغةِ العربيَّةِ. وفي أثناء إقامتي في فرنْسا، إغْتنمْتُ الفرْصةَ، فقرأتُ لشعراءِ الشَّرقِ والغربِ، وكنتُ أقرأ كلَّ ما كان يقعُ بين يديَّ من روائعَ أدبيّةٍ وفنّيّةٍ.
إرتبطتُ وجدانياً بالمطربَةِ أمِّ كلثوم، وَتَفَجَّرَتْ بوحيِِها مَوهبتِي الشِّعريَّة، وَخَفقَ القلبُ بحبِّها وهواها عُذريّاً، وكانت قصَّتي مَعَهَا أقرب إلى الأساطير منها إلى المألوف الحياتيِّ، فكتبْتُ لها الكثيرَ من الشِّعرِ الغنائيِّ، وبقيتُ على هذا الوضعِ حتى وَدَّعَتْ أمَّ كلثومٍ هذه الدنيا، أما أنا فبقيتُ على عهدي بالوفاءِ لذاكَ الهوى القديم لها.
مكانتي الأدبية
انطلاقةَ الموهبةِ الشِّعريَّة لديَّ، بَدَأتْ عندي منذُ الصِّغرِ، يوم أن التقيْتُ بالشّاعرِ العراقيِّ العظيم عبد المحسن الكاظمي في القاهرةِ، هذا الشَّاعرُ الذي أحببتُهُ، وأحبّني، فلازمْتُه ملازمَةً تكادُ تكون كاملة؛ فقد كنتُ أقومُ على خدمتِهِ، فأقدِّمُ له الطَّعامَ والشَّرابَ، بل وَكُنْتُ، لفرطِ حبِّي له، وإعجابي بِهِ، أغسِلُ له قدميْهِ، فتأثرْتُ به وبشاعريَّتِهِ على نحوٍ عَمَّقَ لديَّ الفكرَ، وَصَقَلَ فيَّ الموهبَة.
ثمَّ كان لي أن تعرَّفْتُ سنة 1924م، إلى شخصيَّةٍ متميِّزَةٍ، غَيَّرَتْ مجرى حياتي وَجدانيّاً، وثقافيّاً، وشعريّاً، وهذه الشَّخصيَّةُ هي أمُّ كلثوم، التي ارتبط بها قلبي، في اللّحظةِ التي ارتبط بصوتها شعري، واستمرت علاقتي بها نحو خمسين سنة؛ أي حتَّى وفاتِها سنة 1975م، وكنتُ، خلالها صديقَ دربِها، ورفيقَ عمرِها، وكاتبَ قصائدِها المُغنَّاةِ التي أذاعت شُهرتي وشُهرتها في كلِّ مكانٍ من أرضِ العروبةِ.
إبداعي الأدبيّ والشعري
لقد عِشْتُ عمراً طويلاً، تَنَوَّعَتْ فيه مَجَالات عَمَلي، ولكنَّني ملأته بالقراءةِ، وشغلته بالكتابةِ، وتوَّجْتُهُ بالإبداعِ في ميادين متعدِّدة:
*فقد عملتُ في مجالِ الصّحافةِ، وكتبتُ في العديدِ من الصّحفِ والجرائد والمجلاتِ.
*وعملتُ في مجالِ الفنِّ، فكتبتُ خمساً وثلاثينَ رواية للسّينما.
*وترجمتُ رباعيَّاتِ الخيّام من اللُّغةِ الفارسيَّةِ إلى اللغةِ العربيَّة.
*كما تَرْجَمْتُ الكثيرَ من مسرحيَّاتِ شكسبير.
*وبعد ذلك، قُمْتُ بتصفيَةِ دواويني الثَّلاثةِ، وَجَمَعْتُها في ديوانٍ واحدٍ " سنة 1947م.
*وكان لجهودي الأدبيَّة، وإبداعي الشعري، صدى كبيرٌ في أوساطِ الجماهيرِ العاشقةِ للفنِّ، والمُحبةِ للأدبِ والشعرِ، فَمَنَحَتْني الحكومةُ، في مصر، جائزةَ الدولةِ التقديريَّةِ، كما ظَفِرْتُ سنة 1964م، وبعد وفاةِ المرحومِ عباس محمود العقاد، بلقبِ أميرِ الشُّعراء.
وعندما توفيت أم كلثوم، أُصبتُ بصدمةٍ نفسيّةٍ ووجدانيّةٍ عميقةٍ، فرحتُ أبكيها بقصائدَ تقطرُ لوعةً وأسى، ومما قلته في رثائها:
ما جال في خاطري أني سأرثيها بعدَ الذي صغتُ من أشهى أغانيها
فقد كنتُ أسمعها تشدو فتطربني واليومَ تسمعني أبكي وأبكيها
تبلى العظامُ وتبقى الرّوحُ خالدةً حتى تُردَّ إليها يومَ يُحييها
نهايةُ رحلة العمر
عشتُ عمراً طويلاً نيفتُ فيه على الثّمانين عاماً، صهرتني خلاله المِحنُ المتوالية، والأحزانُ المضنية، فقدتُ فيه حنانَ الأبِ البعيدِ، وفقدتُ فيه أخي محمودا، وابنتي أحلام، فبكيتُهم بالدّمِ والدّمع.
وكنتُ أعتبرُ علاقتي بأمِّ كلثومٍ سفينةَ نجاةٍ من كثيرٍ مما كان يُصادفني في هذه الحياة، ولكنَّ هذه السفينةَ تحطمت بموتها سنة 1975م، فحطمتْ رجائي وأملي، وما كنتُ أدخره في أعماقي من وجدٍ ووجدان، وأصبحتُ أعدُّ أيامي بعدها منتظراً لحظة الخلاص من الدنيا، واللَّحاقِ بها في العالم الآخر، فكان لي ما تمنيتُ عندما أسلمتُ روحي إلى بارئها سنة 1981م، بعد حياةٍ استمرت ما يُقاربُ تسعينَ عاماً.